السوبرماريونيت.. فلسفة الخارق والمسرحيّ
د.حيدر علي الأسدي
يعد الميزانسين أحد أهم وسائل المخرج المسرحي في عملية تحريك النص وتحويله لعرض عياني جمالي على الخشبة، لذا فأن أية معالجة ((للنص هي تأويل جمالي بناء للتشكيل الحركي وليس ترجمة تفسيرية تعتمد السمعي والمرئي بوصفهما مجالات للعرض وخصوصية التجسيد الحي، بل إن التشكيل هو مبنى لمحتوى يكون المفهوم الكلي والتعريف المركزي للعرض المسرحي)) حسبما يرى د.عبد الصاحب نعمة مرعي في كتابه «التشكيل الحركي: الميزانسين في العرض المسرحي» أي أن محاولة وضع المشهد على الخشبة يتطلب رؤية جمالية في هذا التوزيع للكتل، وما يجاورها من أشياء تتناغم هارمونياً مع حركة الممثل ضمن هذه الفضاءات ومديات انعكاس المشهد على التلقي وخلق حالة من الدهشة والجمال أثر هذا البناء المشهدي على
الخشبة.
إن الميزانسين كبقية البنى المسرحية تطور عبر الأزمان والحقب والمناهج والتيارات المختلفة، فقد ارتبط التشكيل الحركي الميزانسين بتطور الحركة المسرحية خلال القرن التاسع عشر بدخول الفضاء المسرحي إلى منطقة الأبعاد الثلاثة، ولأن الفلسفة وجماليات الفنون كانت ولا زالت منذ القدم وحتى عصرنا الحالي محطات ونوافذ تكامل معرفية وبخاصة في السنوات الأخيرة بدأت تتجسر الميزات الجمالية للمعارف وتتداخل لذا فأن ((ثمة التقاء بين منهج الفيلسوف ومنهج الفنان في اتجاه كل منهما إلى التماس الجهد الحيوي في ديمومته الخالصة وفي حيويته النابضة)) حسب رؤية اميرة حلمي مطر في كتابها «فلسفة الجمال». ولعل أحد أهم تلك التمثلات تمظهرت في فلسفة نيتشه وتجسدت في رؤية الفنان المسرحي ادوارد كوردن كريك، عبر مفهوم الإنسان السوبرمان لدى نيتشه ومفهوم السوبرماريونيت عند كوردن كريك.
ولعل نيتشه كان مهتما كثيراً بمفهوم التراجيديا وأثرها المسرحي من الناحية الفلسفية وعلائقية ذلك مع الإنسان في معرض قراءته للصراعات التي تواجه الإنسان المعاصر، تلك الصراعات التي تتطلب حركة من نوع خاص تنم عن إرادة داخلية وفعل جدلي في الخارج، لذا نرى نيتشه يرجع كل فن إلى التراجيديا (الصراع) المتعلق بالمعنى الحياتي والوجودي، ذلك الصراع الذي تمثل فيما بعد في الأعمال الفنية، بما فيه متطلبات تجعل الشخصية الفنية في المسرح التي تتحرك بوتيرة تتسق مع ذلك الصراع، خالقة حالة من الجدل المستمر عن جدوى الصراع في الحياة محاولة في أن تؤكد معاني الوجود ضمن رؤى نيتشه في فهم طبيعة الصراعات الازلية في هذه الحياة. لذا يرى نيتشه بأن ((حياة كل من ابولون وديونيزوس تأخذ دورهما في الوجود نظراً لحركتها الأبدية وهذه هي ميزة الحضارة الاغريقية وهي ميزة الوجود أيضا وتميزت هذه الحياة بوجود إرادة الحياة حيث يجري الصراع الابولوني والديونيزوسي وديالكتيك الظواهر فيتم انتقاد الوجود من المستوى الكوني إلى المستوى الفني)) أي أراد أن يوسع من مدارك الصراعات المستلهمة من الالهة الاغريقية القديمة، مبيناً بأن مثل تلك الصراعات تجسدت في الوجود عبر انعكاسها وتجسيدها توظيفها في مسارات الفن وبخاصة الفن المسرحي.
الجهورية المتفردة
لعل أحد أهم الملامح التي جسدت فلسفة نيتشه بالإنسان السوبرمان الذي يمتلك أرادة وقوة خاصة تميزه عن الإنسان العادي، إذ ((شكلت القيم الموضوعية للقوة الخارقة التي تمتلكها بعض المعايير المنطقية للبشر خواصا أساسية تتبع مفاهيم نيتشه وخاصة ما بحث عنه كريك من قيم ارتبطت بممثله)) وفقا للباحث د.حازم عبدالمجيد في كتابه «المقاربات الجمالية للاتجاهات الاخراجية في تشكيل العرض المسرحي»، أي تقارب وتطابق بين مفهومي الإنسان لدى نيتشه والممثل ذو القدرات الخارقة لدى كريك، فكانت تلك الخواص برؤية عبد المجيد ((الجهورية المتفردة منطلقات حددت اسلوبية معينة في الاشتغال وتوحدت في فكرها ومفهومها وقيمها المبتغاة من الثيمة الخالصة في الإرادة القوية لأسس فلسفة نيتشه فما يسميه الأخير بالإرادة الحرة للإنسان الأعلى أو السوبرمان هو ذاته الممثل الذي يبحث عنه كريك الذي لقبه السومبرماريونت)) والسومبرماريونيت وفقا لكوردن كريك هو: تلك الدمية البشرية التي تكتسب قدرات مثالية خارج القنوات الطبيعية للاخرين وهو الاستثناء الذي يتوافق مع رؤى نيتشه بوجود إنسان خارق وإنسان طبيعي لا يقدر على الكثير من الأمور التي ينفذها ذلك الإنسان الخارق، فقد كان تأكيد غوردن كريك بأن الجمال المطلق والمثالي لا يمكن أن تتوافر((خواصه عبد التعبير الطبيعي لممثل ضعيف لا يملك الخواص الحقيقية والإرادة القوية في توليف الصيغ الصورية والقدرات الخارقة في التشكيل والتعبير وفق منظومة جسدية مرنة ومطواعة وتعبير خلاق)) مثلما يرى حازم عبد المجيد إسماعيل. أي أن الممثل الاعتيادي أو الضعيف لا يمكن أن يؤدي بعض الأدوار والحركات التي تتطلب جسدا مميزا يتمتع بالمرونة العالية يحاول من خلال هذا الجسد المطواع تقديم أداء حركي خلاق يقدم جمالية تشكيلية من خلال هذا الجسد المرن القابل لتلقي الملاحظات والتعليمات والتطور على وفق رؤيا كريك.
انتاج الأفكار الجمالية
ثمة مفهوم آخر يستوحى من توافقه مع القيم الجمالية لممثل كوردن كريك السوبوماريونت وفق رأي نيتشه الذي يرى بأنه وهو مستوى السمو التي تضيفها القيم في الحياة السمو بالإنسانية في محاولة الوصول إلى خلق نوع جديد هذا النوع يتميز بقدرة عالية على انتاج الأفكار الجمالية من خلال القوة التي تفرز الأفعال الجمالية وهذا الممثل «السوبرماريونيت» يكون ذا مميزات عدة، منها قدرته التلقائية والمرونة مع الوعي الكبير بما يقدمه وتوليد الحركات المتنوعة وتنوع التشكيلات من خلال (الجسد) وصولا إلى العلامة المركبة ذات الدلالات
العميقة.
أي يتحول جسد الممثل هنا ليس لتشكيل حركي جمالي وحسب، بل يعمل على إعادة انتاج الدلالات والرموز التي يبتغي الفنان من ايصالها للمتلقي ويولد علامات جديدة في ذهن المتلقي يستطيع من خلالها المخرج اِيصال أفكاره عبر أداء هذا الجسد للممثل الذي يقدم اشكالاً مغايرة تمنح المتلقي تذوقا من نوع خاص من خلال استجابته لدلالات عميقة من خلال ما يقدمه ممثل كريك من تنوع بالعلامات والدلالات والحركات التي تكون أحيانا متضمنة معاني مركبة، من خلال اتساقها الجمالي مع منظومة التشكيلات الأخرى في فضاء العمل الفني فتعمل على تحرر الطاقة الداخلية في محاولة البحث عن التجانس مع الشكل التركيبي للمنظر بتداخل العلاقات الحسية والسمعية والايقاعية والانفعالية لتظهر القوة الفائقة للاداء والقوة والإرادة المتحررة لتقدم كل تلك التشكيلات فضاء جمالي متسق ببعده التشكيلي. إذ أن الممثل السوبرماريونت لا يتجسد حضوره عبر التشكيل الحركي الجمالي وحسب بل هو يشكل حضوره المضموني بوصفه يمثل القدرة والقوة التي تواجه اضدادها ضمن فضاءات العمل الفني كما أن الممثل السوبرماريونت هو ذاته الفرد الممتلك لقدرات متفردة بحيث تكون علاقته بالتقنيات المجاورة له في الفضاء الإبداعي وفضاء التقديم الركحي هي علاقة إنتاجية ذات معطى أسلوب متقن، وان معالم الفكر الاخراجي لكريك تقوم على ((خواص أطرت ابعادها الطبيعية الإنسانية إلى مقومات مثالية في طريقة التعبير والأداء التمثيلي والتي تشتغل ضمن قدرات معيارية تتجاوز القدرات الاعتيادية من الطاقة البشرية)) مثلما يؤكد ذلك الباحث بلعربي محمد في اطروحته المهمة الموسومة «جماليات التشكيل الحركي في لوحات العرض المسرحي: تجربة طلعت سماوي نموذجا» وهو ما يجعل التماثل والتطابق من الناحية الجمالية والتمظهرات قريبة جدا بين مفاهيم نيتشه وكوردن كريك في النظر لطبيعة الإنسان الخارق والممثل الخارق.
وهذا لا يحصل ما لم تتعاضد التشكيلات الجمالية الأخرى ضمن فضاء العمل المسرحي في محاولة توظيف قدرات هذا الممثل الخارق لخلق صورة تكاملية من هذا التشكيل الجمالي الذي يدوره في فلكه الممثل وضمن قدراته الخاصة على خلق انتاج جديد من تكوين العلامات التشكيلية في حركته ضمن أطار هذا الفضاء الجمالي، والتناظر الذي يمنح كل التكوينات رؤية خاصة في العمل الفني، وكريك يحاول أن يصيغ فضاءاته ببعض المدلولات الجمالية والتي تتبع تباينات المنظر الذي يتحرك ازاءه الممثل ليبرز من خلال ذلك قيمته الحركية والتعبيرية للجسد ضمن ادائه على الخشبة وفي فضاء العرض المسرحي وكل هذا يأتي بفضل القدرات الخاصة التي يحاول أن يوظفها كريك لدى ممثله المسرحي، ومن خلال ما تقدم يمكن ملاحظة انعكاس وتجلي لفلسفة نيتشه في موضوع الإنسان الخارق السوبرمان على فلسفة المسرحي كوردن كريك في تطبيقاته المسرحية التي عمل عليها وبخاصة في موضوع الممثل وكيفية أن يكون تشكيله الحركي ضمن فضائه المسرحي الذي عمل عليه في تجاربه المتعددة بتعاضد هذه الحركة لممثله مع بقية التشكيلات الجمالية التي تخلق الميزانسين على خشبته
المسرحية.