نسبة الريف وتهديدات المستقبل

آراء 2024/12/15
...

علي لفتة سعيد

كشف التعداد السكاني لعام 2024 في أن نسبة سكان الريف وصلت إلى أقل من 30بالمئة، وهي نسبة مخيفة لمجتمع كان يشكّل فيه الريف النسبة الأعلى، مقارنة بالمدينة الحضرية في السنوات التي سبقت الحروب العديدة التي خاضها العراق. ففي تعداد عام 1957، كانت نسبة سكان الريف تشكل أكثر من 61 بالمئة، مما يعني أن التغيرات الأخيرة تظهر تسارعا ملحوظا في التحولات السكانية بعد عام 2003، وهو معدل أسرع مما شهدته التغيّرات السابقة في العراق.
أثّرت هذه التحوّلات بشكلٍ خاص في نزوح العائلات من الريف إلى المدينة، حيث بحث الناس عن وظائف تضمن التقاعد والعيش الكريم، مقابل صعوبات الزراعة التي تحتاج إلى جهد كبير ورعاية مستمرة. إلى جانب ذلك، سُمح بتجريف الأراضي الزراعية، بما فيها البساتين التي كانت تدرّ دخلًا جيدًا لأصحابها. كذلك، لعبت الاستثمارات الجشعة دورًا في شراء الأراضي الزراعية بأسعار مغرية تفوق عائد المحصول الزراعي المتوقع. كما زادت الحاجة إلى بناء مساكن للعائلات، التي انشطرت إلى وحدات أصغر مع التزايد السكاني السريع، حيث ارتفع عدد السكان من 20 مليونًا إلى أكثر من 40 مليونًا خلال خمسة عشر عامًا، ليصل في التعداد الأخير إلى أكثر من 45 مليونًا، دون احتساب العراقيين في الخارج. إضافة إلى ذلك، تفاقمت مشكلة شح المياه بسبب نقص تدفقات نهري دجلة والفرات والروافد القادمة من تركيا وإيران.
لكن زيادة نسبة سكان المدينة على حساب الريف لا تعني بالضرورة تطورًا في الوعي أو الثقافة أو التمدن. بل على العكس، قد يكون هذا التحول علامة على تراجع في الوعي. فالمدينة، التي شهدت تحولات اجتماعية كبيرة في ظل الحروب العديدة، اعتُبرت مركزًا للثقافة، بينما أُسقطت صورة عدم التمدن على الفلاحين. إلا أن أصول العديد من السياسيين والمبدعين والمفكرين وحتى رجال الدين تعود إلى الريف. فالريف، تاريخيًا، أكثر انتماءً للأرض، وأكثر استقرارًا في بناء العائلة، وأقل تأثرًا بالصراعات الاجتماعية التي باتت منتشرة في الوقت الحاضر حتى في الأرياف، نتيجة "تحضر" العشيرة وتمددها إلى أسلوب حياة المدنية.
هذه النسبة المنخفضة لسكان الريف لا تثير القلق في الحاضر فقط، بل تشكّل تهديدًا للمستقبل أيضًا. فقد كانت الحلول التي اتبعتها الحكومات السابقة، سواء المركزية أو المحلية، مثل إنشاء مداجن أو "قرى عصرية"، مشاريع فاشلة أُحيطت بشبهات فساد، وتحولت إلى مشاريع خاسرة استنزفت مليارات الدنانير. كان من الأفضل توجيه تلك الأموال نحو حلول فعّالة لإعادة الريف إلى مكانته الطبيعية ونسبته السكانية المرتفعة، من خلال أفكار تشجع الشباب الريفي على الاستمرار في العمل بالزراعة بوصفها أساسًا مستدامًا للعيش. فلا ينبغي أن يكون السكن في الريف أو المدينة هو معيار التمدن، بل يجب التركيز على استغلال الأرض بطريقة تخدم الفرد والمجتمع معًا.
يمكن للحكومة العراقية تبني حلول عملية، مثل تعيين أبناء الفلاحين ومن يملكون أراضي زراعية ضمن خطط تستهدف زراعة مساحات محددة مقابل راتب شهري، مع تقاسم الأرباح بين الفلاح والدولة. هذا النهج يضمن استثمار الأراضي بشكل مستدام، بدلاً من الطرق القديمة التي افتقرت إلى الرقابة وشهدت فسادًا، كالقروض الزراعية التي استخدمها البعض في غير موضعها.
إيجاد حلول فعّالة وناجعة، منها تشجيع الاستثمار في الزراعة من خلال تبني الحكومة لبرامج تدعم الفلاحين، مثل تقديم قروض ميسّرة ومساعدات مالية مشروطة بزراعة مساحات محددة من الأراضي. وكذلك تحسين البنية التحتية في الريف من خلال توفير خدمات صحية وتعليمية حديثة في الريف يمكن أن يقلل من نزوح السكان إلى المدن. وحماية الأراضي الزراعية من خلال وضع قوانين صارمة تمنع تجريف الأراضي الزراعية وتحويلها إلى مشاريع عمرانية، مع فرض غرامات وعقوبات على المخالفين. فضلاً عن إيجاد برامج توظيف موجهة من خلال قيام الحكومة بتخصيص وظائف لأبناء الريف مرتبطة بالزراعة أو مشاريع تنموية أخرى، مع ضمان دخل ثابت، لتحفيز الشباب على البقاء في مناطقهم. وتطبيق مبدأ الثواب والعقاب أمر ضروري. يجب أن يُنظر إلى الأرض الزراعية كمسؤولية اجتماعية، لا مجرد ملكية خاصة يُتحكم بها بشكل فردي. فكما تُفرض العقوبات على المخالفات المرورية لضمان السلامة العامة، ينبغي أيضًا أن تُطبّق ضوابط صارمة على استخدام الأراضي الزراعية لضمان استدامتها.
إذا استمرت الاتجاهات الحالية دون معالجات فعالة، فإن نسبة سكان الريف قد تنخفض إلى أقل من 10% خلال العقد المقبل. إن الحل لا يكمن فقط في معالجة الأرقام، بل في إعادة الاعتبار إلى الريف كجزء أساسي من الهوية الوطنية والاقتصاد العراقي، وإعادة التوازن بين الريف والمدينة لضمان استقرار المجتمع ومستقبله. وكذلك إعادة كليات الزراعة التي غابت عن بعض الجامعات العراقية، لأن الطالب لا يغرب بدخولها لأنه يفكر بالتعيين الذي لا يكون من حصة المهندس الزراعي.