مخاطر الفهم الخاطئ للدين على الأمن والسلام

آراء 2024/12/29
...

 د. خالد عليوي العرداوي

جاءت الأديان السماوية على اختلاف شرائعها، وهي تربط الجانب الروحي والأخلاقي بالجانب العملي والسلوكي، بحيث أن أي محاولة للفصل بين الجانبين تكون مجزأة وغير دقيقة؛ فالدين السماوي بقدر ما هو مجموعة عقائد وقواعد أخلاقية، هو -أيضا- قوانين وأحكام سلوكية، ولذا لا تقتصر أهمية الأديان بما تعِد به من سعادة آخروية فقط، بل وبما توفره من سعادة دنيوية.

وعليه تجد أن الدين هو منظومة عقائد وقواعد ومبادئ وقوانين واحكام وجدت لإصلاح حياة الناس، وجعلهم يعيشون في جنة دنيوية تشكل انعكاسا طبيعيا لجنة السماء الموعودة، على الرغم من تفاوت النعيم والسعادة بين الجنتين، وهذا ما عبر عنه قوله تعالى على لسان نبيه صالح عليه السلام: (...هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا اليه إن ربي قريب مجيب) (هود:61)، وقوله تعالى: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة..) (النحل:97)، والآيات القرآنية بهذا المعنى كثيرة، لا مجال لحصرها.

إن الرسالة التي يحملها أي دين سماوي تجعل غاية خلق الانسان وبعث الأنبياء والرسل بعد التوحيد هي إعمار الأرض، والتمتع بخيراتها، وإيجاد أنظمة الحياة الجيدة والمتطورة ليعيش البشر بأمن وسلام وعدل ورفاه، ليحيا الانسان مع أخيه الانسان بسعادة في ظل الاعتقاد والعمل بمنهج الدين الصحيح، وعندما يعجز عن ذلك عليه تحمل عواقب وخيمة؛ بسبب تركه لمنهج الدين، أو لاتباعه تصورات مغلوطة في فهمه تحرفه عن مساره المستقيم.

وللفهم الخاطئ للدين مخاطر كبيرة على الأمن والسلام الإنساني؛ لأنه يحول المتدين من رسول محبة وسلام، إلى رسول كراهية وانتقام؛ فتراه متعصبا ومتطرفا حاملا للقسوة والجفاء بين جنباته، وباعثا للكراهية في من حوله، بل ولا يتورع -أحيانا-عن ارتكاب أفعال شنيعة لا تنسجم مع مقاصد الدين وما تدعو اليه من رحمة واعتدال وتسامح ورفق في القول والفعل، ولذا قيل في التاريخ الاسلامي: "ضُربت رقاب المسلمين على اختلاف التأويل اضعافا مضاعفة على ما ضربت عند التنزيل"، وهذا الامر طبيعي للغاية، فالفهم الخاطئ للدين يحول النص المقدس الذي يمكن ان يكون منطلقا للصلاح والسلام الفردي والمجتمعي إلى نص آخر يمزق وحدة الجماعة، ويبث فيها الفرقة والعداوة.

ولكن لماذا يحدث الفهم الخاطئ للدين؟

لقد حدد كاتب هذه السطور في إحدى دراساته أربعة أسباب مباشرة تقف خلف الفهم الخاطئ للدين وهي: 

أولا- التوظيف السياسي للدين باستغلال المقدس لتبرير أفعال وممارسات سلطة حاكمة غير شرعية أو قوى سياسية راغبة في الإطاحة بها وتقوية مركزها إزاء خصومها، وهذا التوظيف أربك جمهور المؤمنين فاختلطت عليهم الأحكام، ولم يفرقوا بين النصوص المقدسة الصحيحة المرتبطة بعلاقة الخالق بعباده والعباد فيما بينهم، وبين التوظيف السياسي لهذه النصوص لغايات وأهداف مرتبطة بالسلطة والطامعين في الوصول اليها بأي وسيلة كانت.

ثانيا- هيمنة أنصاف المتعلمين من الذين أخذوا من العلم والمعرفة لاسيما الدينية قشورها، ولم يسبروا أغوارها العميقة والدقيقة التي تمثل لبها وجوهرها، وهم على عجزهم وتقصيرهم نصبوا أنفسهم أئمة يفتون بالحلال والحرام، ويكفرون هذا ويبيحون دم ذاك بفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان، ولذا قال الامام علي عليه السلام بحق هؤلاء: "انما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع، وأحكام تبتدع، يخُالف فيها كتاب الله، ويتولى رجال رجالا على غير دين الله".

ثالثا- الحضور الهائل للماضي وتحكمه بمسار الحاضر، فحضور الماضي كتجربة تاريخية مقترنة بصراعات السلطة والحقيقة التاريخية دون غربلة ومراجعة وفهم الأسباب الكامنة وراءها، وارتباطه بالحماسة العاطفية غير الخاضعة للنقد والتمحيص يقود إلى ممارسة شكل من اشكال التغييب القسري للعقل، والتزييف المقصود وغير المقصود للوعي، مما يُنتج اندفاعا محموما خلف أوهام وعقد تاريخية زائفة أحيانا، ومبالغ بها في أحيان أخرى على حساب بناء الانسان العاقل، والاجتماع السليم، والدولة القانونية القوية في زمننا الحاضر.

رابعا- تعدد قراءات النصوص المقدسة وعدم مراجعتها وتجديدها، فبقاء فهم النصوص المقدسة بالصورة التي فهمها بها الأولون المتصارعون فيما بينهم نقل بطريقة شعورية أو لا شعورية اختلافاتهم وصراعاتهم القديمة إلى زمننا الحاضر، تلك الاختلافات والصراعات، التي كانت في يوم من الأيام سبباً في كثير من الحروب والمآسي والانقسامات المدمرة.. وهذا من شأنه تعميق الانقسام والتشظي في مجتمعاتنا المعاصرة، على الرغم من اختلاف الظروف بين الماضي والحاضر.

صفوة القول: إن بقاء الفهم الخاطئ للدين، وعدم معالجة أسبابه، يُعرض المجتمعات الإنسانية المعاصرة إلى خطر جدي يُلحق بها ضررا كبيرا، وهذا الخطر يتطلب من القيادات الدينية والفكرية، والقوى السياسية والاجتماعية التي ترفع لواء الدين بذل جهود كبيرة ومسؤولة لتصحيح هذا الفهم، وتحقيق مقاصد الدين في حماية الحقوق والحريات، وإعمار الأرض، ونشر السلام والإصلاح والعدل بين الناس.


 باحث وأكاديمي