التنوع الحيوي الثقافي وهويتنا الوطنيَّة

آراء 2024/12/31
...

 د. منتصر الحسناوي 


من المؤكد أن الهويّة الوطنية هي مزيجٌ معقد من العوامل التاريخية والاجتماعية والثقافية والتي تشكل بمجملها صورة الأمة في الوعي الجمعي لشعبها مثل الأعلام، الأبطال التاريخيين، المعالم المعمارية، والتراث الثقافي.... ولكن نادراً ما تتم الإشارة بشكلٍ كافٍ إلى دورِ الطبيعة في تشكيلِ هذه الهوية، على الرغم من أن الطبيعة تمثلُ جزءاً لا يتجزأ من تكوين الهويّة الثقافية لأي مجتمع.

من المعروف أن الهوية الوطنية تتأثر بالعديد من العوامل، وأحد هذه العوامل التنوع الحيوي الثقافي "Biocultural Diversity" الذي يشملُ مجموعة الحياة المتنوعة من نباتاتٍ وحيواناتٍ وكائناتٍ دقيقة على الجغرافية باختلافها وتفاعلاتها مع ما يرتبط بها من تنوعٍ ثقافيٍ يمثلُ العاداتِ والتقاليد البشرية التي نشأت وتطورت في كنفها، وهذه العلاقة ليست وليدةَ الصدفة بل هي نتيجة لتفاعلات مستمرة عبر تاريخ المجتمعات البشرية التي تستمد مواردها من الطبيعة، مثل الغذاء والدواء ومواد البناء واختلاف اللغات واللهجات والمعارف التقليدية التي شكلت أسلوب حياة يتلاءمُ مع طبيعةِ بيئاتها المحلية كالصيد في الأهوار والرعي في البوادي وما يرتبط بها من صناعاتٍ محليةٍ وانشطةٍ اقتصادية وكذلك الأعياد والطقوس الشعبية في كثيرٍ من المجتمعات.

هذه العلاقة هي صلةٌ لا تنقطع من عملياتِ تأثرٍ وتأثيرٍ بين البيئة الحيوية والثقافية كونهما يمثلان وجهين للتنوع وكلاهما يمثل مصدراً غنياً للحياة واستدامتها ومصدراً للإلهام ومنبعاً للأساطير وملهماً للثقافات والفنون. 

فمثلّت "الأنهار" الحياةَ والتجدد و"الجبال" القوةَ والصمود و"النخيل" الجودَ والشموخ ... والقائمة تطول، هذه المفاهيم تتجسد في الأدب والفن الشعبي والتراث الثقافي، مما يعكس التفاعل العميق بين الإنسان والبيئة وتُحاكي هوية الشعوب وتفردها الثقافي.

وهنا لا يمكن إغفالُ دورَ المناخ في هذا التنوع فالبيئات المناخية المختلفة تؤثر في نمط الحياة والعادات الاجتماعية. المجتمعاتُ التي عاشت في بيئاتٍ قاسية، مثل مناطق الأهوار أو الصحراوية أو الجبلية، والتي طورت كلٌ منها ثقافة قائمة على التكيف والتعاون لمواجهة تحديات الطبيعة ما جعلها جزءاً من القيم والتقاليد التي تشكل الهويات المحلية، وهذه العوامل بمجملها جعلت هذا التنوع شريكاً لا غنىً عنه في تشكيل الهوية الوطنية. 

وعلى الرغم من تأثيرها الكبير، فإن الطبيعة غالباً ما تُهمش في الخطاب الوطني فالتركيزُ غالباً يكون على الرموز السياسية والتاريخية التي تمثل تطّورَ المجتمعات وتاريخها السياسي والاجتماعي والتي قد تكون أسهل في التحديد وأشدَّ وضوحاً في الذاكرة الجماعية، مما يجعل الطبيعة في آخر القائمة.

لكنَّ هذا التجاهل للطبيعة في الهوية الوطنية بدأ بالتغيّر مع تزايد الوعي العالمي بتحديات البيئة مثل "التغيّرات المناخية" و"فقدان التنوع البيولوجي"، فاليوم هناك دعوات متزايدة للاعتراف بأن الحفاظ على الطبيعة ليس فقط ضرورة بيئية، بل جزءاً أساسياً من الحفاظ على الهوية الوطنية.

ومع تصاعد الاهتمام بالقضايا البيئية بدأنا نرى محاولات للاعتراف بأن الطبيعة جزءٌ لا يتجزأ من التراث الثقافي، فالتنوع الحيوي لا يمكن فصله عن التنوع الثقافي، وكلاهما يمثلان وجوهاً مكملةً لبعضها في هوية الشعوب. 

من هنا يمكن أن تكون هذه دعوة للتثقيف بأن الهويّة الوطنية لا تقتصر على الرموز الحضارية أو المعمارية أو السياسية بل تشمل الطبيعة بما فيها من تنوّعٍ حيوي ومناظرَ طبيعية، فهي ليست مجرد خلفية جغرافية للهوية الوطنية وإنما جزء حيّ في تشكيل ثقافتنا، ولها تأثير عميق في رسم ملامح تاريخنا وذاكرتنا الجماعية.

قد يكون من الضروري الآن إعادة التفكير في كيفية دمج الطبيعة بشكلٍ أكثر وضوحاً في بناء وتعزيز الهوية الوطنية، ليس فقط كجزءٍ من ماضينا، بل كعنصرٍ أساسيٍ في حاضرنا واستدامة مستقبلنا.