د. عبد الواحد مشعل
تمر أعياد الميلاد هذه السنة في ظروف متشابكة وتحولات وتغيرات اجتماعية وسياسية مختلفة يشهدها عالمنا المعاصر، وعلى الرغم من كل ذلك تبقى ثقافة العراقيين في تاريخهم المعاصر امتدادا لأصولها المدنية، التي انبثقت منذ فجر التاريخ صانعة حضارات متعددة انتجت مجتمع تعددي قادر على الابداع والانجاز، ورسمت شخصية معتدلة قادرة على التعايش المشتركة بمشتركات ثقافية جمعت العراقيين خلال التاريخ، ومن هنا نرى الشخصية العراقية الأصيلة لا تستطيع العيش في خضم ثقافة احادية متعصبة متقوقعة على نفسها، وبهذا المعنى فإن العراقيين بمختلف ألوانهم ومكوناتهم يحتفلون باعياد الميلاد المجيد ليس على اعتبارها تخص المسحيين وحدهم، انما تخص كل العراقيين، وهذا نابع من التكوين التأسيسي للحضارات العراقية القديمة وامتدادها بيكانيزماتها المتفاعلة محركة الشخصية العراقية نحو التعايش المشترك، فليس غريبا أن أعياد الميلاد تحظى باهتمام الانسان العراقي في كل السنوات وهو شعور له صدى في تأريح هذا الإنسان بشكل تلقائي، بحيث اي نظرة مخالفة لهذا الشعور تبقى منحصرة في إطار الشخصية الاحادية التي لا تتمكن من فهم ماهية التعدد وصيرورته الحضارية، لذا ينبغي النظر إلى هذه الأعياد بطريقة تنسجم مع توجهات الثقافة العراقية المدنية التي تقبل الاخر دون تكلف، واذا كانت الظروف مع البدايات الاولى للالفية الثالثة،وما رافقهتا من أفكار طارئة وغربية عن أصول الثقافة العراقية تبقى محركات الثقافة العراقية تعمل على إعادة النصاب الحضاري إلى جذوره الأولى، واضعة امام العالم قيم التسامح بين أبناء المجتمع الواحد، ما يعكس حقيقة كامنة في الحضارة العراقية خلال حقب التاريخ لتعيد الشكل والمضمون، الذي مصدره التكوين المدني للشخصية العراقية إلى ما نشأ عليه من حياة مجتمع تعددي امستند على أصول قيمه ودروسها الأخلاقية وانجازته الحضارية، التي أعطت للعالم منجزات حضرية خلاقة، و قد كان للمسيحين نصيب كبير فيها، فهم مكون أصيل ساهم في بناء الحضارة العراقية من عهد الحضارات الاشورية والبابلية والسومرية، وغيرها حتى زماننا الحاضر. إن الاحتفال بأعياد الميلاد المجيد ورأس السنة الميلادية مسألة حتمية، على الرغم ما يشهده العالم من ازمات وتقاطعات، ولا سيما في منطقة الشرق الاوسط لنجد الانسان العراقي يحرص على إحياء هذه المناسبة وغيرها من مناسبات العراقيين الأخرى، مترجما أساسيات حضاراته بشكل عفوي وبدون مجاملة، مستندا على تنظيمه الاجتماعي القائم على أساس المشتركات الثقافية، ومقدرا كل الخصوصيات الثقافية لكل مكون، بعدِّها أحد مصادر الثقافة العراقية الجامعة التي جمعت ووحدة العراقيين خلال التاريخ، فالاصالة هي التي تتكلم، وتنتصر على كل ما يطرأ على المجتمع من تحديات، فلتكن أعياد الميلاد المجيد رسالة محبة ووئام وسلام لكل العراقيين أن يعيشوا بكل ما يمكن أن يبعث الفرحة في قلوبهم مبينة استحالة العيش بدون مشتركاتهم الثقافية، التي جمعتهم خلال كل الازمنة برخائها وتحدياتها.