العرب في العراق.. تاريخٌ مشتركٌ وهويات متداخلة

آراء 2024/12/31
...

 أحمد حسن 


إن الحقائق التاريخية تظل ثابتة مهما حاول البعض طمسها أو تشويهها، لأن الزمن لا يعترف بالتزييف أو التلاعب. في هذا السياق، ظهرت بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 سرديات مشوهة تسعى إلى إعادة تشكيل هوية العراق بشكل مغلوط. من بين هذه السرديات الادعاء بأن العشائر العربية "دخلاء" على العراق، وأنهم غزوا هذا البلد وفرضوا ثقافتهم عليه بعد الفتوحات الإسلامية، مستندين إلى هجرات متعددة من شبه الجزيرة العربية واليمن. غير أن هذه الادعاءات تتجاهل شواهد تاريخية موثوقة تؤكد أن العرب كانوا جزءًا أصيلًا من النسيج الاجتماعي والثقافي للعراق منذ العصور القديمة، أي قبل ظهور الإسلام والمسيحية واليهودية. يشير المؤرخ جواد علي في كتابه الشهير المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام إلى وجود القبائل العربية في العراق منذ العصور السومرية والأكادية، مؤكدًا أن العراق كان دائمًا جزءًا من العالم العربي ثقافيًا وسياسيًا. فقد كشفت النقوش السومرية والأكادية عن وجود علاقات تجارية وثقافية بين سكان العراق وشبه الجزيرة العربية. كما أظهرت النصوص المكتوبة أن بعض القبائل العربية كانت تقيم في أجزاء من العراق وتؤدي دورًا محوريًا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية. من الأدلة التي يقدمها جواد علي النقوش الأكادية التي وثّقت تفاعلًا مباشرًا بين القبائل العربية وسكان بلاد الرافدين، مما يُثبت أن العرب لم يكونوا غرباء عن هذه الأرض. هذا الحضور العربي المبكر ساهم في تشكيل الهوية الثقافية للعراق قبل تعرف بـ"الفتوحات الإسلامية"، حيث اندمجت العناصر العربية مع التقاليد المحلية، لتخلق هوية متميزة أثّرت بشكل كبير في تاريخ العراق.

لقد تبنّت بعض الجهات والشخصيات، خصوصًا بعد عام 2003، روايات مغلوطة تهدف إلى الزعم بأن العراق لم يكن مأهولًا بالعرب قبل الإسلام. هذه السرديات تدّعي أن العرب جاؤوا إلى العراق كغزاة مع المسلمين الفاتحين، لكنها تتجاهل تقديم أدلة أو نقاشات علمية موثقة لإثبات صحة هذه الادعاءات.

علي الوردي في كتابه لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، وعباس العزاوي في كتابه العراق بين احتلالين، وكذلك حنا بطاطو في كتابه الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية في العراق، لم يشيروا مطلقًا إلى أن الهوية العربية للعراق طارئة أو مفروضة. بل جميعهم أشاروا إلى أنها نتاج تاريخي طبيعي لتفاعل طويل الأمد. وبدلًا من تبني نظرية الغزو، قدم هؤلاء المفكرون تحليلات تُبرز التأثير المتبادل بين القبائل في شبه الجزيرة العربية وسكان العراق المستقرين، مما يُظهر تطورًا تدريجيًا للهوية العربية في المنطقة.

المصادر التاريخية القديمة تُسهم في دحض الادعاءات التي تحاول تصوير العرب كغرباء عن العراق. النقوش الأكادية والسبئية، على سبيل المثال، تُظهر تفاعلًا واضحًا بين العرب وسكان العراق منذ العصور السومرية. كما أن المؤرخين الإسلاميين، مثل الطبري، وثّقوا هذا التفاعل في كتاباتهم، مشيرين إلى دور القبائل العربية في بناء هوية العراق الثقافية والسياسية. إلى جانب ذلك، تشير النصوص الفارسية الساسانية إلى وجود العرب في العراق خلال فترة ما قبل الإسلام، وذكرت بعض القبائل العربية مثل "لخم" و"تغلب" التي كانت تسكن المنطقة وتؤثر في مسارات الحياة السياسية والاجتماعية. كما أشار المستشرقون، أمثال مونتغمري وات وفون كريمر، إلى هذا الحضور العربي المبكر، مؤكدين على العلاقات العميقة بين العراق والعالم العربي. محاولات إعادة صياغة تاريخ العراق وتقديمه ككيان "غير عربي" ليست مجرد اجتهادات علمية، بل تعكس نقصًا في المعرفة بتاريخ العراق الثقافي والجغرافي. هذه المحاولات، كما يشير المفكرون، إلى أنها تمثل تهديدًا لفهمنا للتاريخ الحقيقي للعراق، لأنها تهدف إلى تفكيك الهوية العراقية وإبعادها عن امتدادها الطبيعي وتنوعها التاريخي.

إن الحقائق التاريخية المدعومة بالنقوش والمصادر الأكاديمية تؤكد أن العرب كانوا جزءًا لا يتجزأ من هوية العراق منذ العصور القديمة. الادعاءات التي تصور العرب كدخلاء هي سرديات مشوهة لا تستند إلى أي أساس علمي متين. لذلك، يجب الاعتماد على المصادر التاريخية الدقيقة، مثل كتاب المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي، وقراءة جادة لكتب علي الوردي وعباس العزاوي وحنا بطاطو، إلى جانب النقوش القديمة وغيرها من الأدبيات الموثوقة، لإعادة تصحيح الفهم العام لتاريخ العراق.

ويمكن الإشارة إلى أن اللغات السريانية والآرامية هما من اللغات السامية التي تشترك في العديد من الجذور مع اللغة العربية. وكانت هذه اللغات تُستخدم في العراق قبل الفتوحات الإسلامية، ولكنها لم تكن لغات "غريبة" عن الهوية العربية، بل كانت تشكل جزءاً من النسيج الثقافي المشترك في المنطقة. يمكننا أن نرى كيف أن اللغة السريانية، على الرغم من استخدامها في العراق قبل الإسلام، كانت جزءًا من التراث السامي الذي يشمل العربية. الكنعانيون الذين سكنوا المنطقة قبل الإسلام كانوا أيضاً جزءاً من الهوية السامية. فمن غير المنطقي الفصل بين العرب والكنعانيين بناءً على السردية المشوهة الحديثة التي تهدف إلى التقسيم العرقي واللغوي. الكنعانيون يتحدثون لغة قريبة جداً من اللغة العربية، وبالتالي كانوا جزءاً من المجتمع العربي القديم. 

بهذا الشكل، نعيد الاعتبار للتاريخ الحقيقي ونرسخ الفهم السليم للهوية العراقية ضمن إطارها التاريخي. ومع ذلك، ينبغي التأكيد أن العراق لم يكن بلدًا عربيًا بالمعنى الكامل، بل كان على الدوام موطنًا لمكونات متعددة الأعراق واللغات والثقافات التي عاشت فيه قبل ظهور الديانات الإبراهيمية، مما يعكس تنوعه الغني وهويته المركبة.


باحث وأكاديمي