د. خالد عليوي العرداوي
يُعد سقوط بشار الأسد في الثامن من كانون الأول حدثا مزلزلا خُتم به العام 2024؛ بسبب المباغتة والسرعة التي جرى فيها، ولذا وصف هذا الحدث بـ " الزلزال السوري". وحدث بهذا الحجم لا بد أن تكون له ارتدادات مهمة على سياسات المنطقة والعالم؛ لما أحدثه من تغييرات هائلة في التوازنات السياسية ومعادلات القوة السائدة، ولذا لا غرابة في رؤية جميع الدول منشغلة بترتيبات اليوم التالي، على الرغم من عدم توفر اليقين والوضوح لما يمكن ان تكون عليه صورة هذا اليوم، على مستوى الداخل السوري وخارجه.
وبالنسبة للعراق سيكون هذا البلد من اكثر البلدان تأثرا بما حدث أو ما سيحدث؛ بسبب طول حدوده المشتركة مع سوريا والتي تزيد عن 600 كم، ووجود مشاكل متداخلة بين البلدين، مثل: أزمة الأقليات، أزمة الإرهاب، تقاطع المصالح الإقليمية والدولية. وليس امام العراق سوى واحد من ثلاثة خيارات للتعامل مع سوريا ما بعد الأسد، هي: الانكفاء، والعداء، والتدخل الإيجابي الفاعل. إن سياسة الانكفاء وعدم المبالاة بما يحصل في سوريا تعد سياسة خاطئة للغاية؛ فعدم الاهتمام بالشأن السوري يعني تخلي العراق عن الاهتمام بمجاله الحيوي القريب، وترك بقية اللاعبين الإقليميين والدوليين يقررون جدول الاعمال بما يتناسب مع مصالحهم واولوياتهم، دون مراعاة المصالح والاولويات العراقية، بل وربما على حسابها.
اما سياسة العداء للنظام الجديد في دمشق فلا تقل ضررا عن سياسة الانكفاء؛ فليس من مصلحة العراق اثارة الصراع والعداء مع أي دولة من دول الجوار، ولا سيما سوريا، لأن بغداد جربت هذه السياسة سابقا وجرت عليها عواقب وخيمة مازالت تعاني من اثارها السلبية.
وعليه، ليس امام العراق سوى اتباع سياسة التدخل الإيجابي الفاعل والقائمة على لعب دور مؤثر في احتواء نظام دمشق الجديد، والعمل على مساعدته في بناء دولته في إطار عملية سياسية شاملة تشترك فيها جميع الأطراف السورية لتنتهي بوضع دستور وطني، تتشكل على ضوئه مؤسسات دستورية قوية، فضلا عن مساعدته في رفع العقوبات الاقتصادية، ومواجهة الأزمات الشائكة، وحث القيادات الجديدة على تبني نهج الاعتدال السياسي، ومواجهة التطرف والإرهاب، ورفض سياسة الاقصاء والتهميش لأي طرف، واحترام حقوق وحريات جميع السوريين.
وكما اتفق وزيرا خارجية العراق وسوريا في الاتصال الهاتفي، الذي جرى بينهما في الثلاثين من كانون الأول الماضي على "أن استقرار وأمن البلدين مترابطان... وأن أمن وسلامة العراق يشكلان جزءا لا يتجزأ من أمن وسلامة سوريا"، فإن هذا الفهم المهم والدقيق يتطلب ترسيخا في المسار القادم للعلاقة بين البلدين؛ فسوريا في اليوم التالي ستواجه واحدا من ثلاثة سيناريوهات لا غير هي: سيناريو الحرب الأهلية، وسيناريو إقامة امارة إسلامية متطرفة، وسيناريو تشكيل حكومة شاملة يحكمها القانون والمؤسسات.
ان سيناريو الحرب الاهلية سيكون أسوأ كوابيس العراق في حال حصوله؛ لأنه سيعرضه إلى مخاطر كارثية، منها: مواجهة أزمة نزوح سوري كبير لا تقوى بغداد على التعامل معها، كما أن ضعف السيطرة على الحدود المشتركة من الجانب السوري سيرهق الأجهزة الأمنية والعسكرية العراقية عند محاولة تأمينها، إضافة إلى خروج محتمل لمراكز اعتقال الإرهابيين في سوريا كمخيم الهول عن السيطرة وتدفق افرادها - فكرا وأشخاصا- إلى العراق مهددا الأمن العام للبلد، فضلا عن أن استفحال أزمة الأقليات في سوريا سينقله حتما إلى الداخل العراقي ولا سيما المسألة الكُردية، ناهيك عن زيادة تدخل القوى الإقليمية والدولية في الشأنين الداخليين السوري والعراقي، وتشظي القوى السياسية، وتخلخل تماسك النسيج الاجتماعي العراقي... ولن تقف مخاطر هذا السيناريو عند هذا الحد، وانما ستنهك الدولة والمجتمع في العراق، وتدخلهما في نفق مظلم مجهول العواقب.
اما سيناريو إقامة امارة إسلامية متطرفة فلا يقل ضرره عن السيناريو السابق؛ فهكذا سيناريو سيعني وجود جار سيئ معادٍ للعراق يحاول أن يصدر اليه منهجه في الفكر والحكم من خلال جملة من السياسات العدائية، التي ربما تصل إلى حد اعلان الحرب، واثارة النعرات القومية والطائفية، وغيرها. وعلى الرغم من أن حظوظ هذا السيناريو قليلة؛ بسبب الرفض الإقليمي والدولي له، الا أن استبعاده بالكامل لا يعد أمرا صحيحا.
وبناء على ما تقدم، فإن سيناريو تشكيل حكومة سورية شاملة يحكمها القانون والمؤسسات، سيكون افضل السيناريوهات الثلاثة؛ لأنه سيضمن وجود حكومة سورية فاعلة تتبادل المصالح الاقتصادية مع العراق، وتعمل معه على تنظيم قضايا الأمن والاستقرار، والضبط المشترك للحدود، فضلا عن ايجاد الفرص المناسبة لمعالجة قضايا الأقليات، والحد من عصابات الإرهاب والجريمة المنظمة، وتهريب السلاح والمخدرات، وتوفير فرص مثالية لوصول العراق إلى البحر المتوسط عبر المشاريع المشتركة، كما سيساعد التقارب بين حكومة دمشق القادمة وتركيا في انجاز مشروع بغداد الاستراتيجي، أي طريق التنمية الذي تلتقي فيه مصالح العراق وتركيا وقطر والامارات، وسيعني إضافة دمشق إليه زيادة فرص نجاحه.
بعبارة موجزة: سوريا اليوم تمثل أزمة وفرصة، وعلى العراق اما الاستسلام إلى الازمة فيحترق بنيرانها، أو انتهاز الفرصة واستثمارها في تحقيق الامن والسلام والاستقرار والتقدم للبلدين لجيل اليوم والاجيال القادمة.
• باحث وأكاديمي