صلاح عيسى والمنظور الأخلاقي
د. نادية هناوي
لم تكن عناية صلاح عيسى بكتابات الجبرتي محض صدفة، بل هو افتتان فني وتأثر فكري وامتداد منهجي، وجَّه مسارات صلاح عيسى الأدبية وجهة خاصة، بها عرفت كتاباته وتنوعت ما بين الإبداع السردي والتأليف البحثي، ليكون أحد أهم كتاب السرد التسجيلي في الوطن العربي.
ومثلما جمع الجبرتي بين أرشيفية المؤرخ وفنية الأديب؛ كذلك كان صلاح عيسى أديبا لا ينفك يبحث في الوثائق عما هو حقيقي، ومؤرخا لا تفارقه النزعة السردية. وإذا كان التاريخ بالنسبة إليهما هو التأريخ ابتداء وانتهاء، فإن الذاكرة غير متضادة مع التأريخ، بل هي معاضدة له في التعبير عن الذات والآخر، والتأثير في تشكيل الهوية واستظهار الوعي الجمعي وترسيخه.
والبروتوكول الذي عليه أقام صلاح عيسى سرده التسجيلي يتمثل في المتخيل التاريخي، وبه تمكن من قراءة العالم قراءة سردية متسعة، تسهِّل سد فجوات النص التاريخي وتتلافى نقص الوثائق واستخراج ما لا يستطيع التاريخ استخراجه من معلومات وأخبار. وكل ذلك يجري من أجل البحث عن الحقيقة. فصلاح عيسى لا يرتفع بالواقعة التي يريد تسجيلها عبر إضفاء المثالية عليها، وإنما هو يطوِّع المتخيل ليكون تاريخا يوثِّقه بالتأريخ. وبذلك يصل إلى خفايا الوقائع ويتمكن من معرفة الخلفيات واكتشاف المخفيات بكل ما فيها من مهمل ومستور.
سردٌ تسجيلي
ولا يختار صلاح عيسى الوقائع ويغوص في أحداثها إلا وهو يتتبعها تأريخيا وبنزوع فني لا تعارض فيه بين المتخيل التاريخي وتداعي الذاكرة، فيستعيد أحداث الماضي القريب وشخصياته الحقيقية بالتزامن مع الحاضر المعيش، مقدما سردا تسجيليا ذا معطيات مختلفة هي في الأساس صنيعة محكي التأريخ.
ولا غرو في أن لهذا الخط الذي سلكه صلاح عيسى موجباتٍ ذاتية وأطرًا إجرائية، تتموضع على وفقها مسارات كتاباته التسجيلية في أغلب كتبه مثل (مجموعة شهادات ووثائق لخدمة تاريخ زماننا) و( حكايات من دفاتر الوطن) و(رجال ريا وسكينة سيرة سياسية واجتماعية) و( هوامش المقريزي).
صحيح أنه لم يجنِّسها روايات أو قصصا، مما يجعلها تبدو للقارئ أعمالا وسيرا وشهادات تاريخية اجتماعية، بيد أنَّ الأسس الفنية والموضوعية التي عليها تقوم هذه الكتابات إنما تتموضع في قالب الرواية بوصفها الجنس الأدبي العابر الذي له قدرات وافية استيعابية توفر مساحة كافية لهذا التلاقي الفني، سواء ما بين التخييل والتاريخ أو التأريخ والذاكرة.
ولا عجب في أنَّ يجمع صلاح عيسى هذا كله في قالب الرواية الضام لمختلف الأنواع، ومنها النوع التسجيلي، مسايرا النهج الذي كان أستاذه ومرجعه الأساس عبد الرحمن الجبرتي قد سار عليه في تسجيل الوقائع المصرية وتوثيق أحداث عصره من نواح عدة رؤيوية ومنهجية.
ومن الطبيعي بعد ذلك أن يكون صلاح عيسى هو الأديب المؤرخ والمؤرخ الأدبي الذي انتصر للجبرتي فألَّف كتاب( عبد الرحمن الجبرتي: الانتلجنسيا المصرية في عصر القومية) وصدر عام 2024 عن دار كرمة بالقاهرة. وفيه استثمر صلاح عيسى إمكانياته في السرد التسجيلي فكشف عن أبعاد العصر الذي عاشه الجبرتي من مختلف المناحي التاريخية والاجتماعية والسياسية والدينية. واتخذ صلاح عيسى من كتابيّ الجبرتي (عجائب الآثار في التراجم والأخبار) و( مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس) عينتين تعكسان فكر الانتلجنسيا المصرية بحثا عن حقيقة منهج الجبرتي في رؤية الظواهر التاريخية والاجتماعية.
تاريخ مصر الحديث
ولعل أهم ما اكترث صلاح عيسى بإثباته هو رفض الرأي القائل بأن الجبرتي لم يكن مؤرخا، وإنما كان إخباريا لا منهج له ولا رؤية. وعد ذلك (خطأ لا جدال فيه) وقولا جزافيا لا يقوم على فهم موضوعي، وراح يفصَّل في الأدلة التي تثبت أن الجبرتي كان مؤرخا ذا منهجية، وله وجهة نظر خاصة في ما سجَّله من (قبائح وجرائم ارتكبها العثمانيون عندما دخلوا القاهرة مرة ثانية) فكتب عن وقائع مرحلة تشكلت في ما لا يزيد على خمسة وأربعين عاما. وهي تمثل ثلث الزمان الذي أرَّخ له الجبرتي وكان قد عاصره وترجم لمن كانت تربطه بهم وشائج وصلات.
والبادي أن صلاح عيسى في دفاعه عن الجبرتي مؤرخا إنما ينفي عن نفسه أيضا صفة الإخباري في ما ألفه من كتب تتخذ من الوثيقة أداة وتخضع لاشتراطات التسجيل ومؤديات المتخيل التاريخي. ومن هنا رغب في أن يكشف عن الكيفية التي بها نجح الجبرتي في الجمع بين عمل المؤرخ والأديب فكان من جانب صاحب منهجية ومن جانب آخر صاحب رؤية سردية.
وحقيقة الأمر أن الجبرتي كان متفردا بميزة التأرخة لما هو قريب العهد بالواقع الحاضر المعيش أو المعاصر. ولقد تمتع صلاح عيسى بهذه الميزة ووفى بالتزاماتها، متخذا من كتابيّ الجبرتي آنفي الذكر عينة تأريخية لإعادة كتابة أحداث تلك المرحلة من تاريخ مصر الحديث. وفيها حصلت ثلاثة انقلابات خطيرة الشأن؛ الانقلاب الأول يتمثل في السنوات التي تلت عودة الحكم العثماني المباشر لمصر، والانقلاب الثاني يتمثل في إسقاط الحكم المملوكي العثماني في عامي 1804 و1805 والانقلاب الثالث هو تولية محمد علي حكم مصر.
والأساس الذي عليه يقوم السرد التسجيلي سواء الذي اتبعه الجبرتي أو الذي سار عليه صلاح عيسى هو البناء السردي على نسق التتابع حيث لا ضرورة للتحبيك ذلك أن الأحداث تتوالى والأفكار تترى من دون ضابط فني. فالمهم هو توظيف الوثيقة بمؤديات سردية يساهم المتخيل التاريخي في كشف ما هو محتمل الوقوع من تفاصيلها المتعلقة بواقعة ما أو شخصية من الشخصيات المعروفة أو المغمورة.
ولا شك في أن بناء السرد على نسق التتابع، كان قد يسَّر على الجبرتي تسجيل الأحداث اليومية سواء المعتاد منها أو العجيب والغريب. وهو ما يسَّر على صلاح عيسى أيضا أن يرصد وجهة نظر الجبرتي الأخلاقية معتبرا إياه ابن الانتلجنسيا المصرية الإسلامية سواء في ما كان يطلقه من أحكام على الظواهر، التي عاصرها أو في وقوفه إلى صف المستثمرين المرتبطين بالحكم المملوكي.
والمنظور الذي منه ينطلق عيسى في هذا الدفاع هو بالعموم منظور أخلاقي؛ فلقد كان شائعا في عصر الجبرتي التخلف والتدهور حتى تحول العلماء إلى مستثمرين وماليين وتجار. وهنا نتساءل: هل يكفي هذا سببا لأن يوالي الجبرتي الفرنسيين ويرفض الثورات الشعبية التي قامت ضدهم، ويصف الثوار بالرعاع و(ينظر إلى اقتحام الفرنسيين للأزهر وانتهاكهم لحرمته نتيجة للثورة وليس خطأ فاحشا من المستعمرين) ؟!
تتنوع دفاعات صلاح عيسى الأخلاقية عن الجبرتي أولا من ناحية تعاطف الأخير مع ثورة 1805، وثانيا من ناحية أن المجتمع المصري نفسه لم يكن متزمتا أخلاقيا إلا في الظاهر، ومن ثم لم يأخذ الجبرتي على الفرنسيين استفزازهم الأخلاقي للمصريين. وثالثا من ناحية أن الجبرتي كان رافضا للحكم المملوكي بوصفه امتدادا للتبعية العثمانية.
التأني في الحكم
إن هذا الدفاع عن الجبرتي وتبرير موالاته للمحتل الفرنسي او الانجليزي، مرده إلى ما سجَّله الجبرتي في كتابيه من نقد اجتماعي وسياسي لواقع الشريحة المثقفة (المتعلمة) التي هي في رأيه ساهمت في انهيار الدولة وكانت لها مساوئ بذر الفتن وشق الصف. وإذ يشدد صلاح عيسى على ضرورة التأني في الحكم على موقف الجبرتي من الظاهرة المملوكية، فإنه يعدُّ الجبرتي ممثلا قوميا لمثقفي عصره.
ويأتي دفاع صلاح عيسى من باب أنه لم يجد أية نوايا مبيتة لتأييد الحملة الفرنسية او البريطانية على أساس (أن الجبرتي كان خالي الذهن تماما عن صراع الدول الاستعمارية ولا ينظر إلى السياسة الدولية إلا من حيث موقفها من الملة) وإذا كان هذا مؤكدا فعلا، فإن من الواجب أيضا اعتبار تسجيلية صلاح عيسى للوقائع المصرية أيضا تلقائية بلا نوايا موضوعية أو ذاتية سابقة. وهو أمر يرفضه صلاح عيسى نفسه سواء في ما استند إليه من وثائق أو في ما حلله من نصوص الجبرتي. من ذلك مثلا تأكيده أن وقوف الجبرتي مع أعداء المماليك طبيعي حتى لو كانوا مستعمرين وغزاة، وبسبب ذلك كان متعدد الآراء والاجتهادات من الحملة الفرنسية.
إن الجمع بين الوعي بالماضي ومعايشة الحاضر، يجعل صلاح عيسى يبني تسجيلاته على نسقية فنية تتابعية فيها السارد مراقب، يرصد الماضي بعين الحاضر فلا يهيمن الحاضر ولا يتقدس الماضي. وانطلاقا من هذه النسقية الحتمية في السرد التسجيلي، تمكن صلاح عيسى من الدفاع عن موقف الجبرتي من المحتل الفرنسي، وحاول تصحيح النظرة أخلاقيا عبر عدَّ الجبرتي غير راضخ لسلطة الماضي ولا هوى النفس، وهو يسجل موقف الانتلجنسيا في أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر من دون تقديس للوثيقة مع التطلع في الآن نفسه إلى آفاق قومية عليا.
إن هذا المنظور الأخلاقي هو ما يجعل السرد التسجيلي لا نهائيا، مع أن الواقعة المسجَّلة معرَّفة بزمان فيزيقي/ تأريخي محدد، والسبب أن السارد يراقب الأحداث وهدفه الدفاع عن منهج الجبرتي في ما سجله من وقائع وما اتخذه من مواقف.
ولا مراء في أن حقيقة الجبرتي الملتبسة هي المحك الذي إليه وجَّه صلاح عيسى منظوره الأخلاقي، وتمكن بالمتخيل التاريخي من ترشيح جملة آراء هي بمثابة توصلات محتملة في صحتها، وأيضا نسبية في صدق تأويلاتها، من قبيل قوله:( فالجبرتي لم يكن من المعتقلين .. وهو ما يعني أن الفرنسيين لم يكونوا ينظرون إلى الجبرتي، لا باعتباره متطرفا يخشى من تأثيره ولا جماهيريا يخشى بأسه ولا باعتباره ممن يمكن أن يعارضهم ) . وكثيرة هي الأمثلة على منظور صلاح عيسى الأخلاقي ومن ذلك مثلا قوله:
- إن الجبرتي سعد بجلاء الفرنسيين ولم يكن راضيا كل الرضا عن الاحتلال.
- إن موقف الجبرتي السياسي من الحملة الفرنسية لا يعني أنَّ رفض المحتل هو ثورة واستنارة.
- إن التفاعل بين الانتلجنسيا المصرية والعقل الأوروبي الليبرالي صاغ كل الحلقات التالية من الثورة القومية في مصر والعالم العربي. !!
- إن الجبرتي انبهر بالعلوم الفرنسية ولا يمتد هذا الانبهار ليشمل الإعجاب بالتطبيق الاجتماعي للعلم.
- مشكلة الجبرتي الحقيقية كسياسي هو أنه عجز عن فهم ما كان يجري حوله.
- مشكلة الجبرتي كمؤرخ هي روحه المحافظة وعقله الجامد، فلم يكن نقده يتجاوز الواقع القائم ولم يكن تواقا لتغييره إلى ما هو أفضل منه.
- إن الجبرتي وإن لم يلعب دورا سياسيا مذكورا، فإنه كان يتدخل في شؤون السياسة ما يجعله مصدرا لفهم الحركة السياسية. !!
- إن كتب الجبرتي تعكس رفضا للزمن وهي تمثل النص الوحيد المتوفر حول رؤية الانتلجنسيا المصرية لزمن القومية.
- إن الحس الأخلاقي كان وراء مقارنة الجبرتي بين ما فعله الفرنسيون عندما حاكموا سليمان الحلبي (محاكمة عادلة) وبين ما رآه - أي الجبرتي- من أفعال العسكر العثمانيين.
- إن الجبرتي ضاق ذرعا بما فعله العثمانيون، ولذلك( اعترف صراحة بأن الناس تمنوا عودة الفرنسيس وترحموا على أيامهم، فلم يبق لنا فرصة للاجتهاد في فهم موقفه او موقف الانتلجنسيا) .
إنَّ هذا الدفاع هو مرافعة حقوقية تنمُّ عن وازع أخلاقي في بلوغ المقصد المتمثل بالانتصار لنهج الجبرتي ضد من شكّك فيه أو انتقصه، مؤيدا رؤاه بوصفه ممثلا للانتلجنسيا المصرية. وليس غريبا بعد ذلك أن يندرج كتاب (عبد الرحمن الجبرتي الانتلجنسيا المصرية في عصر القومية) في النهج نفسه، أولا لأن المؤلف صلاح عيسى اعتنى بالتأريخ وليس التاريخ، ولأنه ربط الماضي القريب بالحاضر المعيش الذي ما يزال مؤثرا فيه ومتأثرا به سياسيا واجتماعيا وفكريا. ولأنه وجد في نهج الجبرتي التأريخي مؤازرة فكرية لمسعاه في إعادة فهم الماضي، من خلال ربطه بحركة الواقع الحاضر. ليكون صلاح عيسى من ثم ممثلا أيضا- في الأقل من منظوره الذاتي- للانتلجنسيا المصرية في عصر الايديولوجيا.