تجربة الجولاني في سوريا الجديدة

آراء 2025/01/07
...

 أحمد حسن 

بعد سقوط نظام الأسد في سوريا، انتعش الأمل في قلوب الكثيرين بتغيير وشيك نحو وطن يسوده العدل والمساواة، حيث تُصان الحقوق وتحترم الحريات. لكن الواقع، كما هو الحال في العديد من الثورات العربية، أخذ منحى مختلفا ومقلقا، إذ تلاشت آمال بناء سوريا حرة، ليحل محلها واقعٌ يعيد إنتاج سلطاتٍ مستبدة، هذه المرة تحت غطاء شعارات دينية وجهادية، كما تجسدها هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع (الجولاني سابقا).

الجولاني، على الرغم من كونه شخصية ذات أبعاد إقليمية كبيرة، ليس مجرد حدث عابر في سياق الحرب السورية، بل هو تجسيد لظاهرة أعمق وأوسع تمثل عودة لآليات الهيمنة السياسية المتمثلة في خطاب ديني يزعم المثالية. من البداية، كان مشروعه أكثر من مجرد سعي للسلطة؛ إذ كان محاولة لإعادة صياغة أدوات الهيمنة.

إن التحول الكبير الذي شهده الجولاني بدأ في العراق بعد الغزو الأميركي في 2003. في تلك اللحظة التي انهارت فيها الدولة العراقية وتفككت المؤسسات، وجد الجولاني فرصة ذهبية لصقل أدواته في العمل المسلح والقتالي. هناك، انضوى تحت راية تحالفات مع بقايا النظام البعثي المنحل وقيادات السلفية الجهادية، وهو ما أتاح له فهما عميقا لفلسفة الفوضى وكيفية توظيفها لتحقيق أهدافه.

انتقاله إلى سوريا بعد أن تلقى أوامر من زعيم تنظيم داعش، البغدادي، كان خطوة مهمة في تطور مشروعه، إلا أنه سرعان ما تخلى عن ارتباطه بتنظيم داعش ليؤسس جبهة النصرة، التي تحولت فيما بعد إلى هيئة تحرير الشام. تحت شعارات "المعتدلين" السياسية، استمر مشروعه في مسار لا يختلف كثيرا عما سبق، إلا في شكل الرسائل والشعارات التي يرفعها. منهج السيطرة الذي أتبعه الجولاني، بدءا من العراق وصولا إلى سوريا، يعكس سعيا نحو بناء سلطة شمولية، تُقصي كل من يختلف معها.

إن تحليل ظاهرة الجولاني لا يمكن أن يتم في عزلة عن السياق الأوسع الذي شكل نشأته، ففهم هذه الظاهرة يتطلب النظر في الثقافة السياسية التي ساعدت على بلورة شخصيته وأيديولوجيته. ففي سوريا، كما في العديد من البلدان التي مرت بتجارب ثورية، تكون الثورات في كثير من الأحيان محكومة بظروف وأوضاع تعزز استمرارية الاستبداد وتعيد إنتاجه بطرق جديدة. وهنا لا تكمن المشكلة في شخصية بعينها أو في نظام واحد، بل في ثقافة سياسية عميقة الجذور تسهم في إدامة السيطرة، حتى وإن اختلفت الأشكال أو الأيديولوجيات التي تروج لها هذه الأنظمة.

قد يبدو للكثيرين أن الجولاني يمثل الخطر الأكبر في هذا السياق باعتباره رمزا لهيمنة دينية مسلحة، لكنه في الواقع ليس إلا امتدادا لثقافة استبدادية طالما كانت سائدة في المنطقة، هذه الثقافة، التي تتعزز عبر التفسيرات الدينية المغلوطة والسياسات القمعية، تقدم العنف ليس أداة قسرية فحسب، بل وسيلة مشروعة للهيمنة على الآخرين. فعندما يتبنى الجولاني خطابا يروج للعدالة ويقدم نفسه كمنقذ من الاستبداد، إلا أن ممارساته تفضح المفارقة العميقة التي تقع فيها الثورات المعتمدة على العنف. إذ إنه، بدلاً من بناء نظام عادل، ينقض الجولاني على تلك الأيديولوجيات التي كان يهاجمها، ليعيد إنتاج ممارسات قمعية مشابهة لتلك التي كان يزعم محاربتها.

المفارقة هنا تكمن في أن الثورات التي تستخدم العنف وسيلة لتحقيق العدالة، غالبا ما تجد نفسها في دوامة من القمع الذي لا يختلف كثيرا عن ذلك الذي سبقها. فإذا كانت الثورة تهدف إلى التحرر من الاستبداد، فإن التوجه نحو استخدام العنف كأداة رئيسية قد يؤدي إلى تكريس شكل آخر من أشكال الاستبداد، بل وأحيانًا يكون أكثر قسوة. فالعنف، بدلًا من أن يكون وسيلة للانتصار على الظلم، يتحول إلى أداة لترسيخ السلطة والحفاظ عليها، حتى وإن تم تبريره تحت شعارات دينية أو سياسية جذابة.

وبالتالي، فإن تجربة الجولاني تعد نموذجا حيا لهذه المفارقة، حيث يتم تقديم القمع تحت غطاء من الشعارات الدينية والسياسية، أي بمعنى آخر، يُروج لفكرة العدالة في الوقت الذي تمارس فيه السلطة كل أشكال الإقصاء والهيمنة. هذه الظاهرة تتطلب إعادة النظر في فاعلية الثورات التي تنطلق من خطاب العنف: هل يمكن لمثل هذه الثورات أن تحقق العدالة والحرية على المدى الطويل؟ أم أنها ستظل أسيرة لنفس الآليات القمعية التي كانت تسعى للتمرد عليها؟.

إن التغيير الحقيقي في سوريا لا يكمن في إسقاط رأس النظام أو رمز معين، بل في بناء نظام قيمي يرتكز على العدالة والحرية، بعيدًا عن الهيمنة والإقصاء. فالواقع السوري المعقد يتطلب تجاوز الخلافات الأيديولوجية وتوحيد الصفوف نحو مشروع وطني جامع يعترف بالتنوع الثقافي والسياسي ويحقق مصالح الجميع. فالشرعية الحقيقية لا تأتي من القوة أو الهيمنة، بل من إرادة الشعب، التي من خلالها يمكن إنشاء مؤسسات ديمقراطية تضمن الحقوق وتعزز المشاركة الفاعلة للجميع في صنع القرار.

• باحث وأكاديمي