نبيه البرجي
على مدى قرون، ونحن حيناً بين صراع الامبراطوريات، وحيناً بين صراع الأيديولوجيات. الباحث اليهودي الفرنسي ماريك هالتر الذي نفى أي علاقة بيولوجية بين اليهود الحاليين والعبرانيين القدامى، وصف الشرق بـ"حوذي الأزمنة".
المستشرق الفرنسي جاك بيرك رأى أن مشكلة المنطقة أنها "مصابة" بداء التاريخ وبداء الأيديولوجيا. العلاج في "الدخول الفوري في ديناميات القرن".
ذات يوم من عام 1997، ولدى اثارة قضية الياباني كوزو أوكاموتو، الذي شارك في عملية اللد عام 1972 أمام القضاء اللبناني، التقيت بصحافيين يابانييين، سألتهم عن كيفية انتقال عدوى الحداثة في بلادهم إلى منطقتنا. أحدهم أجاب "كنا مثلكم في الاجترار البائس للماضي.. إلى أن ظهر الأمبراطور ميجي (1867) الذي عمد إلى تحويل ديانة الشانتو من الديانة العامودية، وحيث الاقامة على تخوم الغيب، إلى ديانة أفقية، وحيث كل منا يسكن في الآخر".
لطالما أخذنا بنموذج شبه الجزيرة الكورية، التي وصفها تقرير البنك الدولي عام 1964 بالمنطقة الميؤوس منها، لعدم توافر الموارد البشرية والموارد الطبيعية. هناك وضع خاص لكوريا الشمالية التي تمكنت، بالرغم من الحصار الهائل، من صناعة القنبلة النووية. أما كوريا الجنوبية فقد حققت معجزة تكنولوجية لتغدو امبراطورية الكترونية، فيما لا نزال نحاول، وكما قال زياد الرحباني، الصعود إلى القمر على حصان الزير المهلهل.
يفترض بنا تفجير الزمن، هذه هي نظرية الباحث المستقبلي الأميركي آلفن توفلر، الذي جاراه الصيني ياو بانغ "مهندس الظل للاصلاحات الاقتصادية الصينية". ذلك البلد الذي بنى السور العظيم لدرء الغزاة، اليابانيون احتلوه. كذلك الإنكليز العرب، في وقت من الأوقات كانوا يعيّنون امبراطور الصين. كيف كان الخروج من عالم العيون الضيقة والأحذية الضيقة، لتتحول الصين إلى نموذج اسطوري في الصناعة، وخلال مدة قياسية ؟ شعار بانغ تشغيل الأدمغة أوركسترالياً مع تشغيل الأيدي...
بول كروغمان، الأميركي الحائز على نوبل في الاقتصاد، لاحظ ساخراً كيف يخشى البيت الأبيض من أن تقع أوروبا في غرام الصين. الأوروبيون يشتكون مما يصفونه بـ"الحصار القاتل" بدعم الشركات الأميركية في منافستها للشركات الأوروبية، التي تعاني من تصدير منتجاتها إلى الأسواق الأميركية. وحتى بالنسبة إلى عالم الأزياء، والمنتجات الأخرى التي تعكس ثقافة الرفاهية الأوروبية.
صاحب كتاب "انهوا هذا الكساد الآن" يرى "أننا قد نستيقظ قريباً، لنرى القارة العجوز ترقص التانغو مع التنين". في نظره أن الولايات المتحدة التي أطلقت مشروع مارشال عام 1947 لمساعدة القارة على النهوض من الآثار الكارثية للحرب العالمية الثانية، حدت من استثماراتها في أوروبا في حين أن الصينيين الذين ينتهجون استراتيجية رؤوس الأصابع، يقدمون عروضاً مذهلة لتفعيل عمل قطاعات اقتصادية حيوية. إلى متى "السور الأميركي العظيم" في أوروبا أمام الصين.
في مقالة له في "النيويورك تايمز" رأى كروغمان أن دونالد ترامب يخطئ كثيراً حين يحاول أن يجعل من أميركا "دولة فوق العالم"، ما ينعكس كارثياً حتى على البلدان الحليفة التي قد ترفض "الاختناق داخل الغرفة الأميركية".
تلك الفلسفة الأميركية تجعل، وبحسب مقولة الأنكليزي توماس هوبز، "الجميع ذئاب الجميع"، لترى "الفورين أفيرز" أن المضي في ذلك المسار الفلسفي قد يجعلنا نفاجأ في لحظة ما، أن هناك من "يشحذ أسنانه ليأكلنا". أين نحن، كدول وكمجتمعات عربية أمام هذا المشهد ؟
نستذكر وصف المستشرق الأميركي برنارد لويس لنا بـ"الرمال البشرية الضائعة": صراعات لولبية حول الماضي، لا حول المستقبل. هكذا البقاء على صفيح ساخن ريثما ينجلي صراع الأمبراطوريات وصراع الأيديولوجيات. باراك أوباما، الآتي من "مجتعات الأنين" قال لنا "المشكلة فيكم". اين ميثاق الدفاع العربي المشترك، وأين السوق العربية المشتركة التي أقرتها جامعة الدول العربية قبل اتفاقية الفحم والصلب التي ظلت تتطور إلى أن ظهر الاتحاد الأوروبي.. هل ترانا نحلم بقيام اتحاد عربي؟
لكأنه السقوط في جحيم دانتي (الكوميديا الإلهية)، حيث "أناس لا يعيشون ولا يموتون". الآن، ونحن داخل الزلزال، نراهن على فتح نوافذ منازلنا على المستقبل. آن الأوان للخروج من قاعة الانتظار (ثلاجة الانتظار)، لنطرق أبواب المستقبل، وليطرق المستقبل أبوابنا.