د. سرور محمد خليل
في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم الرقمي، أصبح الشباب اليوم في قلب المعركة المحتدمة بين السعي وراء الربح المادي والاستمرار في إنتاج محتوى إبداعي حر يعكس هويتهم وأفكارهم. مع انتشار منصات التواصل الاجتماعي والتطبيقات الرقمية التي تمثل وسيلة رئيسة للتعبير والإبداع، تواجه الأجيال الشابة تحديات معقدة تتراوح بين استغلال المنصات لقيمتها الفنية والفكرية وبين الانصياع لقواعد السوق التي تفرض أولويات الربحية على حساب الجودة والابتكار، إذ إن هذا الصراع لا يتوقف فقط عند المحتوى الذي ينتجه الشباب، بل يمتد ليشمل البيئة التي تحكم هذا المحتوى، من خوارزميات المنصات التي تتحكم في الوصول إلى الجمهور، إلى عقود الشراكة والإعلانات التي تجعل الكثير من الشباب يقعون في دائرة الإنتاج الموجه تجارياً. وبينما تسعى المنصات الرقمية إلى تحقيق أقصى قدر من العائدات المادية من خلال الإعلانات والرعاية، يجد المبدعون الشباب أنفسهم أمام خيارات صعبة: هل يستمرون في إنتاج محتوى يعبر عن رؤاهم وقيمهم، أم يخضعون لضغوط السوق من أجل تحقيق الشهرة والربح؟ وبينما توفر المنصات مثل يوتيوب وإنستغرام وتيك توك فرصاً هائلة للوصول إلى جمهور عالمي، فإنها تفرض أيضاً قيوداً غير مرئية على طبيعة المحتوى، من خلال تفضيل ما يُعرف بـ"المحتوى السريع"، الذي يحقق أعلى نسب مشاهدة وأكبر عائد إعلاني. هذه المعايير التجارية تؤثر بشكل مباشر على قرارات صناع المحتوى الشباب، وتجبرهم في أحيان كثيرة على تعديل رؤاهم الإبداعية لتتناسب مع متطلبات السوق الرقمي، في الوقت نفسه، يواجه الشباب تحدياً إضافياً يتمثل في التوازن بين الإنتاج الحر والحاجة إلى تحقيق دخل مستدام. بالنسبة للبعض، تصبح صناعة المحتوى وظيفة أساسية تحتاج إلى موارد مالية، مما يدفعهم إلى تقديم تنازلات في ما يتعلق بجودة المحتوى أو أصالته. ومن هنا، تبرز أسئلة جوهرية حول طبيعة الإبداع في العصر الرقمي: هل يمكن للإبداع أن يزدهر في بيئة تجارية مهيمنة؟ وهل يستطيع الشباب فرض رؤاهم وأفكارهم في عالم تحكمه الأرقام والإعلانات؟
إذ إن الصراع بين الربح والإبداع الحر يتجاوز كونه قضية فردية؛ فهو يعكس تحولات أعمق في الاقتصاد الرقمي العالمي، الذي يضع القيم الثقافية والإبداعية أمام اختبار صعب، وبينما تتيح التكنولوجيا فرصاً غير مسبوقة للتعبير الحر، فإنها في الوقت نفسه تُعيد تشكيل مفهوم الحرية ذاته وفقاً لأطر اقتصادية وتجارية دقيقة.
إن التحديات لا تقتصر على العوامل الخارجية فقط، بل تتداخل مع صراعات داخلية تواجه المبدعين الشباب، حيث يتوجب عليهم الموازنة بين رغبتهم في الابتكار والتجريب من جهة، وحاجتهم إلى تحقيق الاستدامة المالية من جهة أخرى. هذا التوازن يبدو أحياناً مستحيلاً في ظل نظام رقمي يميل إلى مكافأة ما هو شائع وسريع الانتشار على حساب ما هو عميق ومبتكر ومع ذلك، فإن المعركة بين الربح والإبداع الحر ليست مجرد قصة صراع، بل هي أيضاً حكاية مليئة بالفرص، فقد شهدنا ظهور موجة من الشباب الذين نجحوا في استغلال المنصات الرقمية لتقديم أعمال إبداعية حققت نجاحاً واسعاً دون أن يتنازلوا عن قيمهم. هؤلاء المبدعون يمثلون أملاً جديداً يلهم الأجيال القادمة، ويظهرون أن الإبداع الحقيقي يمكن أن يصمد أمام مغريات الربح السريع.