ميتا وإكس.. صراع الخوارزميات بين الليبراليَّة والشعبويَّة

آراء 2025/01/14
...

 أحمد حسن

في عصرنا الحالي، أصبحت السياسة والاقتصاد والثقافة والدين جميعها خاضعة لخوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي، التي لم تعد مجرد أدوات تقنية لتنظيم البيانات، بل تحولت إلى قوى خفية تتحكم في تدفق المعلومات وتعيد صياغة توجهات الرأي العام بما يخدم مصالح الأقوياء. فبينما تهمش هذه الخوارزميات الفئات الضعيفة، تساهم في تشكيل الوعي الجمعي وتحقيق الهيمنة الرقمية، مما يدفع الأفراد إلى الانقياد وراءها دون مقاومة تذكر.

شركات التكنولوجيا الكبرى، مثل "ميتا" (فيسبوك وإنستغرام) و"إكس" (تويتر سابقًا)، تهيمن على هذه الخوارزميات، مما يجعلها أدوات غير مرئية في خدمة النفوذ السياسي والاقتصادي. فعلى سبيل المثال، في الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2024، استخدم فريق دونالد ترامب الخوارزميات لتغيير قناعات شريحة كبيرة من الناخبين الأمريكيين، مما أسهم في عودته إلى البيت الأبيض بشعارات مثل "أمريكا أولًا". ورغم أن بعض الطروحات التي طرحها ترامب، مثل ضم جزيرة غرينلاند أو تحويل كندا إلى ولاية أمريكية، لم تتحقق، إلا أنها أظهرت قدرة هذه المنصات على تشكيل مفاهيم جيوسياسية وفقًا لمصالح النخب الحاكمة.

المنافسة بين منصات التواصل الكبرى لم تعد تقتصر على عدد المستخدمين أو العائدات الإعلانية، بل أصبحت ترتبط بقدرتها على تشكيل الأيديولوجيات والتحالف مع القوى السياسية الكبرى، مثل الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة.

بعد تصاعد الحرب الإسرائيلية على غزة في السابع من أكتوبر 2023، لعبت منصات التواصل الاجتماعي دورًا محوريًا في تشكيل الروايات الإعلامية. بينما تبنت "ميتا" خطابًا ليبراليًا ينسجم مع سياسات الحزب الديمقراطي الأمريكي، فرضت قيودًا على الأصوات المناهضة لإسرائيل، مما أبرز دورها كأداة لتوسيع نفوذ الإدارة الأمريكية الحالية في النزاعات الجيوسياسية. في المقابل، قدمت “إكس” نفسها كمنصة شعبوية تدعي الانفتاح على جميع الأصوات، بما في ذلك تلك التي تعارض التيارات السائدة. ومع ذلك، فإن "إكس" استخدمت نفس خوارزميات “ميتا” لتشكيل واقع موازٍ يخدم أجندات معينة.

الخوارزميات، إذن، لا تقتصر على عرض المحتوى المناسب لاهتماماتنا، بل تسعى لتشكيل هذه الاهتمامات نفسها. فهي تغمرنا بمحتوى يعزز قناعاتنا الحالية، مما يعزلنا عن الأفكار المتنوعة ويغلق الباب أمام التعددية الفكرية. وفي هذا السياق، تقوم المنصات بتحديد أولويات الأخبار والأحداث، مما يخلق واقعًا مضللًا يتناسب مع أجنداتها السياسية.

الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن هذه الخوارزميات تساهم في خلق "واقع بديل"، ليس فقط عبر تغيير الأفكار، بل من خلال بناء شخصيات وهمية ومستخدمين افتراضيين يشاركون في التفاعل مع الجمهور، مما يجعلهم يصدقون روايات مزيفة أو محرفة. هذا التلاعب يتغلغل إلى القيم الأخلاقية والاجتماعية، ويعيد تشكيل إدراكنا لما هو صواب وما هو خطأ. على الرغم من أن "ميتا" تروج لفكرة أن العالم الافتراضي أصبح أقوى من العالم الحقيقي، إلا أن هذا الواقع الرقمي مشوه، حيث تفرض هذه المنصات صورة مثالية لما يجب أن يكون عليه العالم، بينما تراقب وتوجه كل تحركاتنا. وفي ذات السياق، رغم ادعاء “إكس” بأنها تمثل مساحة حرية غير مقيدة، فإنها تستخدم تقنيات الخوارزميات نفسها لتوجيه النقاشات والتلاعب بالواقع بما يخدم مصالح معينة.

بالتالي، فإن ما نعيشه اليوم ليس مجرد تنافس بين منصات رقمية، بل هو تحول جذري في طبيعة الواقع نفسه. ميتا و"إكس" استطاعتا بناء عالم افتراضي موازٍ، جعلنا نعيش فيه كما لو أننا تخلينا عن عالمنا الحقيقي. في هذا الواقع الرقمي، لم نعد نتحكم في قراراتنا اليومية، بل أصبحت خياراتنا متأثرة بما تصممه لنا الخوارزميات بناءً على مصالح القوى المسيطرة.

إعادة التفكير في دور هذه المنصات وفي علاقتنا بها أصبح ضرورة ملحة. فبينما نعيش في عالم يتسم بوفرة المعلومات، إلا أن الحقيقة قد تكون مغيبة، والمعلومات التي نتلقاها قد تكون مجرد انعكاس لأجندات خفية. ما نحتاجه الآن ليس فقط حرية التعبير، بل حرية التفكير واستعادة الحقيقة بعيدًا عن قيود الكوكب الرقمي الذي يفرضه علينا الأقوياء.

في هذا الإطار، يمكننا أن نستحضر الإرث العلمي للخوارزمي، الذي أسس قواعد رياضية أصبحت حجر الأساس للعالم الرقمي المعاصر. يقول الخوارزمي في كتابه الجمع والتفريق بحساب الهند: "العلم نور، والجهل ظلمات، ولا يصلح العمل إلا بإدراك أصوله". لقد سخّر الخوارزمي علمه لتبسيط المعرفة ونشرها، بينما نجد اليوم أن المبادئ ذاتها تُستغل للحد من حرية الفكر بدلاً من تعزيزها.

إن استلهام رؤية الخوارزمي يذكّرنا بأهمية السعي نحو الحقيقة والمعرفة، بعيداً عن هيمنة الخوارزميات وأجندات القوى المسيطرة. وفي ظل تزايد الاعتماد على التكنولوجيا، يصبح من الضروري استلهام دروس الماضي لمواجهة التحديات الرقمية واستعادة جوهر التفكير الإنساني وعمق العقل البشري.