الحريَّة.. المفهوم العائم

آراء 2025/01/19
...

 د. حيدر عبد السادة جودة

 

تنتهي الكثير من التعريفات الأكاديمية إلى حد الحرية بكونها إمكانية الفرد، دون جبرٍ أو شرط، على اتخاذ قرار أو تحديد خيار من عدة إمكانات موجودة... أو هي حق الفرد في التعبير عما يراه مناسباً، دون أي ضغطٍ خارجي أو حتى نفسي. وهذا يقودنا إلى وصفها، وببساطة شديده، بـ(كسر القيود في التعاطي مع الأشياء من حيث خلق الأفعال وممارستها)، ولكن، ومن المفارقة، نجد أن الحرية من أكثر المفاهيم التي تحتاج إلى قيد أخلاقي لتكون فعلاً ملائماً وصالحاً للمداولة الاجتماعية. وهنا نصل إلى التساؤل الجوهري عن مدى علاقة الحرية بالحتمية الأخلاقية؟. أي هل نفهم من الحرية فعلا مجردا عن كل التبعات والمسؤوليات؟ أم هي مبدأ يحتاج في صيرورته وسيرورته إلى عملية إدامة إلزامية؟.


وقبل أن نجيب عن ذلك، لنا أن نشير إلى أن الحرية لا تكمن في الوجود بقدر ما تتعلق بالماهية، وحتى في الأخيرة فهي لا يمكن أن تكون إلا باشتغالٍ نسبي ومحدود، ففضلاً عن كوننا لا نمتلك الخيار في خلقنا بهذه الهيئة أو في تلك البيئة، فإننا نفتقر من جهةٍ أخرى إلى رسم خصوصيتنا وطريقة تفكيرنا، فنحن لا نختار ما يجب أن نكون عليه، لذلك دائماً ما تبقى صورة الإنسان الكامل تطاردنا من جهة ونطاردها من جهة أخرى(تحت معايير دليل الكمال لـ ديكارت) دون جدوى من اللحاق بها؛ وبالتالي فما نحن إلا نتاج البيئة التي نشأنا فيها دون خيارٍ أو معرفة(تحت معايير هربرت سبنسر "الإنسان ابن بيئته")، وقد نكون فيها مجرد دمية، نتوجه إلى حيث ما يريد الرقيب أن نتجه، سواء أكان الرقيب ديناً أو فكرة طائفية أو حتى مؤسسة تربوية واجتماعية، فهو-أي الرقيب- يُمارس على الفرد إمكانية الصناعة والتدجين، فنحن لم نكن كذلك، بل صرنا كذلك.

وعلى كلِّ حالٍ، فينبغي أن تقترن الحرية بالمسؤولية، كما أقرت الفلسفة الوجودية ذلك، بل يجب أن تكون قرينة القيد والحدود، لأن حالها كحال (الفضيلة) من وجهة نظر أرسطو والكندي، أي إنها الوسط الذهبي بتعبير الفيلسوف الصيني (كونفوشيوس)، فلا إفراط ولا تفريط، فالحرية الدينية على سبيل المثال تقع وسطاً بين هامشين، التعصب الأصولي من جهة، الذي يقضي على حرية الفرد في أن يختار دينه ومعتقده، فيحكم عليه بالانفلات، والانفلات القيمي من جهةٍ أخرى، والذي يؤدي بالأخير إلى ازدراء الأديان والمعتقدات، فينتهي بالحكم على الآخر بكونه متعصباً وإرهابياً... أما وسط هاتين الحريتين فتكمن الحرية الدينية، التي تدع للآخر في أن يعتنق دينه ومذهبه دون التطرف وإقصاء أصحاب الملل والنحل الأخرى. 

وكذا الحال بالنسبة للحرية الأخلاقية، فهي أيضاً وسط بين رذيلتين، الانغلاق والعزل عن المجتمع بدافع الحفاظ على السمعة والتقاليد، والانحلال الأخلاقي الذي يمارس الحرية بشكلٍ هجين وصارخ. أما الحرية الأخلاقية فهي قرينة الذوق العام، والتي تُمارس أفعالها بمسؤولية اجتماعية، لا تنتهي بصاحبها إلى الرجعية ولا إلى متاهات الشهرة العمياء.

من خلال ما تقدم نجد أن الحرية تلتزم في تطبيقها على مسؤولية كبيرة، فهي إن احتلت المكانة الوسطية بين المبادئ، بقي عليها أن تحترم مقررات غيرها، وإن أدى ذلك إلى الاختلاف، أما الحرية المطلقة فقد تنتهي إلى احتدام الخلاف، وشتان ما بين الخلاف المُنهِك والاختلاف المُنتج. 

ففي الوقت التي تكون فيه الحرية مرهماً ضرورياً لعلاج الأزمات النفسية لمعشر المنغلقين والمتعصبين، في أن تخرجهم من ضلالات العمى إلى إشراقات المستقبل، عن طريق تفعيل خاصية العيش السليم، فإننا اليوم بحاجة فعلية إلى الحتمية في ترويض الانفلات الأخلاقي الذي يُمارس تحت يافطة الحرية، فينبغي أن يتم تقنين المفهوم لدرجة سلب الحرية عن الحرية ذاتها.