ترامب وعسكرة النظام الدولي

آراء 2025/01/19
...

  أحمد حسن 


عندما دخل دونالد ترامب البيت الأبيض عام 2017، كان وصوله إلى السلطة بمثابة زلزال سياسي، ليس فقط داخل الولايات المتحدة، بل على مستوى العالم بأسره. لم يكن الأمر مجرد تغيير على مستوى رئاسة البيت الأبيض، بل كان إيذانًا بانقلاب جذري على النظام الدولي الذي استقرت أسسه منذ الحرب العالمية الثانية. 

سياسات ترامب، بما حملت من تناقضات، لم تكن تعبيرًا عن شخصية استثنائية بقدر ما كانت إفرازًا لتحولات عميقة تعتمل في قلب المجتمع الأمريكي، وهو ما انعكس على إعادة تشكيل دور الولايات المتحدة في العالم.

في سياسته "أمريكا أولًا"، أعلن ترامب تحديًا صارخًا للمبادئ التي قامت عليها العولمة الليبرالية. هذا الشعار لم يكن مجرد تعبير عن أولوية المصلحة الوطنية، بل كان رفضًا واضحًا للنظام العالمي الذي تديره مؤسسات مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية. بالنسبة لترامب، كانت هذه المؤسسات رموزًا لعصر فقدت فيه الولايات المتحدة هيمنتها المطلقة، وسعت إلى إعادة تشكيل العلاقات الدولية وفق معادلة تخدم واشنطن وحدها.

مع وصول ترامب للبيت الأبيض مرة ثانية، تجسدت سياسته في نمط جديد من الشعبوية، لا يكتفي بالتشكيك في النخب السياسية التقليدية، بل يرفض أيضًا الأعراف الدبلوماسية التي كانت تُعتبر من ركائز القيادة العالمية. 

جاء ترامب بخطاب صادم، لا يتردد في مهاجمة الحلفاء قبل الخصوم، معتمدًا على لغة بسيطة وواقعية تعكس "براغماتية التجار" أكثر مما تعبر عن رؤية استراتيجية شاملة. بهذا، قدم ترامب نموذجًا مناقضًا لليبرالية، حيث تحولت العلاقات الدولية إلى لعبة صفرية تتحدد وفق منطق الربح والخسارة، لا التعاون والشراكة.

وفي هذا السياق، يسعى ترامب إلى فرض إرادة أمريكية واضحة لا تحتمل التأويل، وهو ما يتضح في سياسته الاقتصادية التي تعتمد على فرض التعريفات الجمركية وتشجيع الحروب التجارية. 

هذه الإجراءات جزء من استراتيجيته لإعادة صياغة النظام الاقتصادي العالمي بعيدًا عن مبادئ السوق المفتوحة التي شكلت الأساس النظري لليبرالية الجديدة.

على عكس أسلافه الذين حاولوا إصلاح النظام العالمي أو التكيف معه، تبنّى ترامب سياسة تقوم على التفكيك وإعادة البناء. العلاقات مع الاتحاد الأوروبي نموذج لهذه الاستراتيجية، حيث يريد أن يتعامل مع الكتلة الأوروبية كعبء أكثر من كونها شريكًا استراتيجيًا. انتقاداته المتكررة لحلف الناتو، وتهديده بسحب الالتزامات الأمريكية إذا لم يرفع الحلفاء الأوروبيون إنفاقهم الدفاعي، تمثل تعبيرًا عن رؤية ترى في التحالفات عبئًا ما لم تصب في خدمة المصلحة الأمريكية المباشرة.

هذا النهج يثير تساؤلات حول مستقبل النظام العالمي: هل ترامب يحاول تقويضه بالكامل، أم أنه يسعى لإعادة تشكيله وفق ميزان قوى جديد؟ بالنسبة لترامب، كان النظام الليبرالي الدولي قد فقد قدرته على تحقيق أهدافه، وأصبح عبئًا على الولايات المتحدة التي تحملت كلفته لعقود طويلة.

في قلب رؤية ترامب للعالم، تعتبر الهيمنة العسكرية أداة رئيسية لإعادة فرض النفوذ الأمريكي. سياسته تجاه الحلفاء مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأيضًا بريطانيا وفرنسا وألمانيا وكندا، وفرضه ضغوطًا لزيادة مساهمتهم المالية في التكاليف الدفاعية، كانت تعكس إدراكه للجيش الأمريكي كأداة مساومة أكثر من كونه رمزًا لتحالف القيم.

لكن ما ميز ترامب عن غيره هو تركيزه على استعراض القوة أكثر من استخدامها الفعلي. انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني وفرض عقوبات قاسية كانا تعبيرًا عن هذه السياسة: تهديد دائم بالقوة مع تجنب الدخول في مواجهات مباشرة. وكما يشير المفكر جون مييرشيمر، إلى أن النظام الدولي لا يستقر إلا بوجود قوة مهيمنة تفرض قواعدها على الجميع، وهو ما حاول ترامب تحقيقه عبر ترسيخ فكرة أن الولايات المتحدة ليست مجرد طرف في النظام الدولي، بل هي من يحدد قواعد اللعبة.

سياسات ترامب تفتح الباب أمام تساؤلات أعمق: هل نحن بصدد نهاية الليبرالية أم تحولها إلى شكل جديد أكثر توافقًا مع نزعات القومية والشعبوية؟

في رؤيته الاقتصادية والسياسية، يسعى ترامب لإعادة تعريف السلطة الدولية، بحيث تصبح الولايات المتحدة قوة مهيمنة لا شريكًا متكافئًا. رفضه اتفاقيات التجارة الحرة والمؤسسات الدولية لم يكن مجرد رغبة في الانسحاب من النظام العالمي، بل كان تعبيرًا عن إرادة لإعادة تصميمه بما يتناسب مع مصالح الولايات المتحدة.

وكما يرى نعوم تشومسكي، فإن الولايات المتحدة، رغم تناقضاتها الداخلية، تسعى دائمًا إلى ضمان مركزية دورها في النظام العالمي، سواء عبر القوة الصلبة أو الناعمة. لكن ما فعله ترامب هو تقويض أدوات القوة الناعمة لصالح استعراض هيمنة صريحة، ما جعل الولايات المتحدة تبدو أكثر عزلة حتى بين حلفائها التقليديين.

لم تكن سياسات ترامب مجرد تجربة سياسية عابرة، بل مثلت تحولًا فكريًا في مقاربة الولايات المتحدة للعلاقات الدولية. ترامب، بتوجهاته الشعبوية وسياساته الحمائية، قدم نموذجًا مغايرًا لما اعتاده العالم من رؤساء أمريكا. 

هذا النموذج قد لا يكون مستدامًا، لكنه بالتأكيد ترك بصمة عميقة في هيكل النظام العالمي، وأعاد طرح أسئلة جوهرية حول مستقبل العلاقات الدولية في عصر تتزايد فيه النزعات القومية والشعبوية.

ترامب لم يكن مجرد رئيس للولايات المتحدة، بل كان تعبيرًا عن أزمة الليبرالية في مواجهة عالم متغير، عالم يُعاد تشكيله على أساس توازنات جديدة، حيث القوة هي اللغة الوحيدة التي يفهمها الجميع.