تطبيعٌ أم تطويع؟

آراء 2025/01/20
...

 أ.د.جاسم يونس الحريري


في اللغة، يُقصد بكلمة "طبّع "، جعل الأمور طبيعية، أو أنّه جعل الشيء مناسبًا للظروف وأنماط الفعل الطبيعية، ويطبّع الشيء تعني أن تجعله طبيعيًا، عاديًا، وذلك من خلال تكييفه مع الشروط الطبيعية، بعباراتٍ أخرى، مصطلح "التطبيع" (Normalization) مشتق من الكلمة الإنجليزية (Normal) أي العادي والمتعارف عليه والمعتاد. 

ولم يرد في معاجم وقواميس اللغة العربية بمفهومه السياسي المعتمد اليوم في أدبيات العلاقات الدولية، بينما وردت كلمات مثل الطبع والطبيعة والتطبع والانطباع، وتدور كلها حول معنى السجية التي جُبل عليها الإنسان، حتى يصبح ذلك الطبع "طبعة" أو "دمغة" ملازمة له، وهو أمر يناقض مفهوم "التطبيع" الذي يُقصد به جعل العلاقات بين طرفين عادية وسلمية على عكس حقيقتها القائمة على الأرض. 

ويعد الفيلسوف الفرنسي (ميشيل فوكو) من أوائل الذين تحدثوا عن مصطلح (التطبيع) في كتابه "المراقبة والمعاقبة"، وفي محاضرة بعنوان "الأمن، الإقليم، السكان" عام 1978، إذ قال إن مفهوم التطبيع "يتألف في الأساس من إنشاء نموذج مثالي يتوافق مع نتيجة محددة".

ويضيف أن الهدف مما يسميه "التطبيع التأديبي" هو "جعل الأفراد والحركات والإجراءات تتماشى مع هذا النموذج المرسوم بدقة، إذ يعد هذا النموذج المعيار الطبيعي الذي يجب الامتثال له، وكل ما يخرج عن هذا المعيار يعتبر غير طبيعي وغير مقبول".

إن التطبيع هو عملية تبديل حالة ما هو شاذ، غير مألوف، أو غير طبيعي، حتى يصبح طبيعيًا ومألوفًا وعاديًا.

وفي قضية التطبيع مع الكيان الصهيوني، التطبيع هو المشاركة في أي مشروع أو مبادرة أو نشاط، محلي أو دولي، مصمم خصيصًا للجمع سواء بشكل مباشر أو غير مباشر بين الفلسطينيين أو العرب وإسرائيليين أفرادا كانوا أم مؤسسات ولا يهدف إلى مقاومة أو فضح الاحتلال وكل أشكال التمييز والاضطهاد الممارس على الشعب الفلسطيني. 

إن طبيعة التسوية التي تحاول أن يفرضها الكيان الصهيوني على الدول العربية تتجاوز إقامة علاقات بين الجانبين، أو حتى إقامة نوع من التعاون بين دول المنطقة، بل إنها محاولة إلغاء جذري وشامل ومنهجي ومخطط للأمة العربية وتاريخها وثقافتها وقيمها الأخلاقية والدينية ومقاومتها، وشخصيتها العربية، وتحويلها إلى كم من الأفراد في آلية اقتصادية اجتماعية ثقافية جديدة. 

كذلك تمثل حركة التطبيع بالنسبة للكيان الدعامة الرئيسة للتغلغل الصهيوني في المنطقة العربية، لأنه أعمق وأكثر استقرارًا من أي ترتيبات أمنية كالمناطق المنزوعة السلاح، ووضع قوات دولية وغيرها من الترتيبات الأمنية.

فالتطبيع يبقى العامل الحاسم على المدى البعيد، لأن الصراع يترسخ في وعي الشعوب وثقافتها وذاكرتها الجمعية ووجدانها العربي، فتصعب هز القناعات وتدمير مقومات الذاكرة الوطنية واختراق الثوابت التاريخية والدينية والحضارية دون إقامة جسور للتواصل والتطبيع.

وبالتالي فإن الإصرار الصهيوني على التطبيع، ينبع من إدراكه أن هذا الميدان هو المؤهل والقادر على تشويه الفكر العربي والثقافة الشعبية الوطنية، وضخ المفاهيم والتصورات المشوهة لقيمه ومبادئه والشخصية العربية. 

ورغم تصاعد حجم التطبيع، فإن الكيان الصهيوني لا يشعر بالارتياح، إذ صرحت (وزارة الشؤون الاستراتيجية الصهيونية)، في أكتوبر/تشرين الأول 2020، بأن 90% من الخطاب العربي على مواقع التواصل الاجتماعي رافض لاتفاقيات التطبيع.

كما تشكلت في عدد من الدول العربية هيئات ومؤسسات وجمعيات مناهضة للتطبيع، وتدعو إلى وقف مسلسله، وتحذر من خطورته على قيم ونسيج المجتمعات العربية والإسلامية.

أما (التطويع) مع الكيان الصهيوني فهو عبارة عن المخطط الصهيوني، الذي يقوم في بعده الاستراتيجي، على إعادة الهيكلة التامة للوعي العربي، بما يضمن أولًا وجودها السياسي في المنطقة العربية، وثانياً تأثيرها كعنصر يتحكم بقطاعاته المختلفة، من خلال السيطرة بعناصر القوة التي تمتلكها، وتتمثل في التعليم والتقنية والاقتصاد، وتُمكّنها من خلق حال من الهدوء العام فترةً طويلة تصل فيما بعد إلى شكل من التفاهمات على مستوى دولي وإقليمي وعربي.

 ويهدف المشروع الصهيوني إلى تغيير اللغة بهدف "تطويع المجتمع" وإقناعه بمواجهة الحقيقة وتقبُّل الواقع كما هو، وتحقيق المَصالح الحصرية لهذه "النخب"، ومن ثم مصلحة المشروع الصهيوني الاستعماري في التمدّد والسيطرة، وشرعية وجوده التي يحتاج إليها بهدف التوسع الجغرافي السياسي في المنطقة.خلاصة القول أن مصطلح (التطويع) أصوب من مصطلح (التطبيع) لان الكيان الصهيوني سعى من خلال تأريخه الاحتلالي والاحلالي إلى تقويض عناصر القوة عند العرب، وتعميق عناصر الضعف وتطويعهم نحو الاعتراف والتجانس مع الكيان الصهيوني كجزء من المنظومة الاقليمية التي يريد أن يرسخها جيوسياسيا وجيواستراتيجيا في خارطة، يسعى إلى خلقها وهي (الشرق الاوسط الجديد) سيئة الصيت. إن فكرة (الشرق الأوسط الجديد أو الكبير)، ليست حديثة العهد في مشاريع الفكر الصهيوني الاستعماري والتوسعي، فهو مشروع مشتركصهيوني– أميركي. 

فقد أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية( كوندوليزا رايس) أثناء الحرب الصهيونية على لبنان في تموز (يوليو) 2006 أن آلام هذه الحرب هي:" الولادة القاسية للشرق الأوسط الجديد"، لتعطي دلالة واضحة أن كل حرب يخوضها الجيش الصهيوني هو من أجل شرق أوسط جديد. 

ويعتبر رئيس الوزراء الصهيوني السابق (شمعون بيريز) هو صاحب هذه النظرية، أصدرها من خلال كتاب أسماه الشرق الأوسط الجديد في العام 1996.