أ.د. طلال ناظم الزهيري
مع التنامي السريع للتكنولوجيا واعتماد الإنترنت في مختلف جوانب الحياة اليومية، أصبحت الجرائم الإلكترونية من أبرز التحديات التي تواجه المجتمعات الحديثة.
فالثورة الرقمية التي سهّلت الوصول إلى المعلومات والخدمات بشكل غير مسبوق أوجدت بيئة مواتية لظهور جرائم جديدة تهدد أمن الأفراد والمؤسسات على حد سواء.
هذه الجرائم تشمل الهجمات على البيانات الشخصية والمؤسسية كذلك الاحتيال المالي والتعدي على حقوق الملكية الفكرية وصولاً إلى أشكال معقدة مثل الابتزاز الإلكتروني والتجسس السيبراني فضلا عن نشر الأخبار المضللة عبر منصات التواصل الاجتماعي.
إن التطور المستمر لهذه الجرائم يجعلها خطرًا عالميًا يتجاوز الحدود الجغرافية مما يتطلب استجابة جماعية دولية ومنهجية شاملة لمواجهتها.
في العراق تُظهر التشريعات القائمة قصورًا واضحًا في معالجة الجرائم الإلكترونية.
فرغم وجود قوانين تمس الجوانب الرقمية إلا أن هذه القوانين غالبًا ما تكون غير مكتملة أو تفتقر إلى التحديث اللازم لمواكبة التطورات التكنولوجية المتسارعة.
مشروع قانون الجرائم المعلوماتية الذي طُرح عام 2011 يمثل محاولة أولى لتنظيم هذا المجال لكنه أثار جدلًا واسعًا في الأوساط الشعبية والحقوقية بسبب مخاوف تتعلق بتقييد حرية التعبير والحق في الوصول إلى المعلومات.
هذه المخاوف دفعت إلى تعليق القانون وعدم إقراره حتى الآن ما يعكس الحاجة الماسة إلى تشريع متوازن يعالج الجرائم الإلكترونية بشكل فعّال دون الإضرار بالحقوق الأساسية.
إن تحقيق التوازن بين مكافحة الجرائم الإلكترونية وحماية حقوق الإنسان يتطلب صياغة نصوص قانونية واضحة ودقيقة توفر ضمانات قوية ضد إساءة استخدام السلطة.
يجب أن يُركز التشريع على تعزيز حرية التعبير وضمان الوصول الحر إلى المعلومات كجزء أساسي من البيئة الرقمية العادلة. ولضمان فعالية القانون يجب أن تتخذ الدولة سلسلة من الإجراءات الاستراتيجية تشمل تعزيز التعاون بين الحكومة والقطاع الخاص الذي يعد ركيزة أساسية لتبادل المعلومات حول الأنشطة المشبوهة وتطوير بنية تحتية رقمية آمنة قادرة على التصدي للهجمات السيبرانية.
إلى جانب ذلك يُعد التعليم والتوعية العامة من المحاور الأساسية في مواجهة الجرائم الإلكترونية.
يتطلب الأمر إطلاق حملات توعوية شاملة تستهدف كافة شرائح المجتمع مع تركيز خاص على الشباب وطلاب المدارس والجامعات.
هذه الحملات يجب أن تهدف إلى تمكين الأفراد من حماية معلوماتهم الشخصية وتجنب الوقوع في فخ الجرائم الإلكترونية مثل التصيد الاحتيالي أو الابتزاز الرقمي.
كما أن تدريب الكفاءات الوطنية يُعد ضرورة مُلحة حيث يتطلب التصدي لهذه الجرائم توفير برامج تدريبية متخصصة للأجهزة الأمنية والقضائية لتطوير مهارات التعامل مع الأدلة الرقمية وإنشاء فرق متخصصة قادرة على التصدي لأنواع الجرائم الإلكترونية المتنوعة.
التحديث المستمر والمواكب للتطورات التكنولوجية هو عامل حاسم لضمان حماية المجتمع من الجرائم الإلكترونية.
يجب أن تشمل القوانين قواعد صارمة لحماية البيانات الشخصية والمعاملات الإلكترونية مع فرض عقوبات رادعة على إساءة استخدام التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي وتقنيات تزوير الهوية الرقمية.
كما يُعد دعم البحث العلمي أولوية أساسية في هذا السياق من خلال إنشاء مراكز بحثية متخصصة في الأمن السيبراني تقدم حلولًا مبتكرة للتحديات الناشئة وتشجيع الجامعات على تطوير برامج تعليمية وبحثية تُعنى بتقنيات الأمان الرقمي وأثر الجرائم الإلكترونية على المجتمع. ولضمان كفاءة القانون يجب تسريع الإجراءات القضائية المرتبطة بقضايا الجرائم الإلكترونية مع توفير حماية قانونية للمبلغين عن هذه الجرائم لضمان عدم تعرضهم لأي شكل من أشكال الانتقام أو المضايقة. علاوة على ذلك يمثل تعزيز ثقافة الأمان الرقمي داخل المؤسسات التعليمية خطوة ضرورية لتعزيز وعي الأجيال القادمة. إدراج موضوعات الأمن السيبراني ضمن المناهج الدراسية يُمكن أن يسهم في بناء جيل واعٍ ومؤهل للتعامل مع التحديات الرقمية. كما ينبغي إنشاء وحدات متخصصة لرصد التهديدات الرقمية وتحليلها في الوقت الفعلي مع اتخاذ إجراءات حازمة لحماية البنية التحتية الحيوية مثل قطاعات الصحة والطاقة من الهجمات الإلكترونية التي قد تهدد استقرارها. إن التصدي الفعال للجرائم الإلكترونية يتطلب رؤية شاملة وإجراءات متكاملة تجمع بين التشريع التعليم البحث العلمي والتعاون الدولي. من خلال هذه الجهود يمكن للعراق أن يُعزز من قدرته على مواجهة التحديات الرقمية المعاصرة بما يحقق توازنًا دقيقًا بين التطور التكنولوجي وحماية المجتمع من دون المساس بالحريات الأساسية مما يُسهم في بناء بيئة رقمية آمنة ومستدامة تُلبي تطلعات الأفراد والمؤسسات على حد سواء.