العافية والاعتلال

ثقافة شعبية 2025/01/23
...

كاظم غيلان 




منذ إشارة "المتنبي"ورواية "الأصمعي " في متشابهات الشعر وحوافر الخيول وقضية التأثيرات في التجارب الشعرية ظلت بمنأى عن الدراسات وان وجدت، فلربما بندرة بينما تشغلنا جميعا، فتوارد الخواطر، والتناص وغير ذلك غدت اتهامات أعلى مما هي بديهية، لا يمكن أن تتسبب بإلغاء تجربة شعرية إن خضعت لتقييم مبني على وعي نقدي وليس اجتهادات شخصية بعيدة عن جوهر التجربة.

التأثيرات حصلت في شعرنا العربي منذ قبل الإسلام وبعده ومتسبباتها متوفرة كالدين والتاريخ والبيئة، فموروثاتنا تعكس كل ما لديها على تجاربنا فهي والحالة هذه تحمل مبرراتها في أيما تجربة شعرية ومهما كان مستواها.

التجارب تجاور بعضها ولا بد من التأثيرات كما في قصيدة النثر، إذ أقر" أمين الريحاني "  في تأثره بقصيدة "والت ويتمان" - أوراق العشب - عقب نشر  أول قصيدة نثر عربية في مجلة الهلال العام ١٩٠٢ حسب ما أورد ذلك فاضل العزاوي بشهادته " الرائي في العتمة ".

في شعر العامية حصلت التأثيرات منذ التجارب الأولى الكبيرة فها هو"الحاج زاير" يقع تحت مؤثرات النص القرآني ليكتب :

" أنا امن الاجيك اقرالك الم نشرح 

ونته اذا شفتني تقره اذا زلزلت "

وهذا وحده يدحض تهمة أمية الحاج زاير ويبرهن على معرفته بالنص القرآني وفهمه له وعبقريته في توظيفه .

ولربما القصيدة العامية والاغنية أبرز من تأثر بالبيئة والموروث الديني - واقعة الطف- وما أعطت من موروث كربلائي يمتد ليومنا هذا، فأغنيات شهيرة استمد ملحنيها إيقاعات مواكب العزاء الحسيني وراحوا ينسجون ألحانهم على ايقاعاتها.

لكن وللأسف طبعا ظلت هذه التأثيرات محض اتهامات تصل حد التسقيط للعديد من التجارب بحكم تراجع الوعي الشعري إن لم أقل انهياره، في وسط جل اهتمامه اللهاث خلف غبار المهرجانات والغوص في الهامش الشعري، الذي ظل بعيدا عن التقويم النقدي الكاشف للكثير من التجارب الشعرية وما أنجزت.   

أن يتأثر شاعر بتجربة شعرية عظيمة هذا مؤشر عافية ووعي وليس بتهمة كما يروج لها البعض من معوقي العقول، فلو لا سعة إدراك الشاعر للتجربة الغنية التي رصدها بعمق ودقة لما تأثر بها.

اليوم وفي ظل فوضى مشهد شعر العامية وما تفعله السوشيال ميديا نجد رواجا للنماذج الهابطة التي شوهت جماليات القصيدة العامية واسرارها التاريخية التي عرفت بها، فضلا عن برامج الخواء التي يتحمل الإعلام الأسباب كلها في سوء اختياره لنماذج شاحبة التجارب عديمة الوعي، فلا هي إعلامية محترفة ولا هي جديرة باشتراطات الموهبة ومسؤوليتها الكفيلة بحماية ذائقة الناس من التشوهات والتسطح.

التأثر عافية، والعافية خير من الاعتلال.