نبيه البرجي
لكأننا الآن أمام قراءة ميثولوجية للمشهد الأميركي. الروائية آليسون لين تساءلت ما اذا كانت آلهة النار، وآلهة الزمهرير، قد خرجت من قاع الأزمنة (وراء الأزمنة) بعدما استشعرت وقع قدمي دونالد ترامب على الطريق إلى البيت الأبيض. هكذا هبت الحرائق في مدينة لوس أنجلس، وهي مدينة السيدة العذراء (ملكة الملائكة)، وهكذا بلغ الصقيع ذروته يوم التتويج الذي جرى في الكابيتول لا في البيت الأبيض. الطبيعة تثأر لخروجه من اتفاقية المناخ. لين كتبت "بهذه الطريقة تستقبل قتلة البنفسج" !
أكثر من رئيس أميركي حاول تغيير المسار الكلاسيكي للتاريخ. جيمس مونرو أطلق مبدأه الشهير بعدما تخوّف من انتقال العدوى القبلية، أو العدوى الأمبراطورية، إلى الضفة الأخرى للأطلسي. قال باقفال الأبواب في وجه آلهة الدم. وودرو ويلسون، وقد دعا إلى الخروج من ثقافة قايين وهابيل من أجل عالم يدين بالولاء إلى الحياة، أطلق "عصبة الأمم". هاري ترومان الذي ألقى القنبلة الذرية على هيروشيما للقول إن تاريخ أميركا هو تاريخ البشرية، جعل الكاتب الياباني كينزابورو أوي (نوبل في الأداب) يكتب "لسوف تظل الهياكل العظمية الصفراء في رقصتها الأبدية فوق قبره". لم يكترث ترومان بأي رأي آخر لأن العالم بحاجة إلى "ذلك الحوذي الذي يقود العربة ـ اي البشرية ـ إلى الفردوس". رونالد ريغان الذي وصف الاتحاد السوفياتي بـ"إمبراطورية الشر"، أطلق برنامج حرب النجوم "لاعادة روسيا إلى حظيرة للدببة القطبية".
جان زيغلر، المفكر السويسري الذي أمضى حياته دفاعاً عن "أولئك الناس الذين يشبهون ملاعقهم الخشبية" لاحظ أن ما من إمبراطور الا وكانت "الذئاب الجائعة تتجول في رأسه". لعل هذا ما أوحى للروائي الروسي بوريس باسترناك (الدكتور زيفاغو) بالقول "كلما كنت أتأمل في صورة جوزف ستالين كان يتناهى اليّ عواء الذئاب في رأسه". من يسمع عواء الذئاب في رأس دونالد ترامب؟
بوب وودورد قال إنه الرجل الذي يحاول أن يتسلق التاريخ بقدمي من يحاول تسلق النار. مواقفه، وهو يقرع الطبول، توحي بأنه لن يحرق أصابعه في الجحيم الذي يدعى الآخرون ؟ ولكن ألا يحاول أن يخنق بأصابعه هؤلاء الآخرين بالقيود الاقتصادية القاتلة؟
العالم أمام شخصية مركبة بصورة عجيبة (أم عجائبية؟). لأربع سنوات، وربما أكثر، هي محور يومياتنا. واذا كان ريغان قد قدم نفسه "نائب الله" الذي أنيط به تدمير الكرملين، كبؤرة للوثنية، ترامب يقدم نفسه كـ"أداة إلهية". القس بنيامين مارش لاحظ أن المسيحيين الأنجليين يجرون مقارنات بين شخصيته وشخصيات من الكتاب المقدس، مثل قوروش، الإمبراطور الفارسي، الذي أنقذ اليهود من السبي البابلي.. وصوله إلى البيت الأبيض حصل بـ"نبوءة كتابية"، تماماً مثلما نتنياهو يعتبر أنه، في غزوه لغزة، تجسيد لنبوءة اشعيا، وهو من أهم أنبياء العهد القديم الذي قتل بمنشار خشبي.
قلنا ان الثنائي بايدن ـ نتنياهو فعل كل ما يلزم لوصول ترامب على سجادة حمراء إلى المكتب البيضاوي بتاج الإمبراطور وبصولجان الإمبراطور. الرئيس الأميركي السابق زوّد رئيس الحكومة الاسرائيلية بكل ما يلزم، لتدمير أي قوة يمكن أن تشكل تهديداً للدولة العبرية. ولكن أي نوع من السلام يمكن أن يقوم، ويدوم، فوق تلك الكمية الهائلة من الجثث التي مثلما تكدست في العراء، أو تحت الأنقاض، تكدست في الذاكرة. بطبيعة الحال في... اللاوعي .
الرئيس الحالي يرى أنه مثلما انتهت مهمة بايدن، ونذكر قوله "سأقوده بنفسي إلى المقبرة"، انتهت مهمة نتنياهو الذي لم يتردد السناتور بيرني ساندرز في القول إن ترامب سيلقي برأسه في صندوق القمامة، وان قيل أنه أغدق عليه الكثير من الوعود، ليس فقط لإنفاذه من الزنزانة، بعد أن يصبح هدفاً للملاحقات القضائية، وانما لفتح كل أبواب الشرق الأوسط أمام إسرائيل. أما سارة، زوجة زعيم الليكود، فقد سبق وقالت "لقد حزمنا حقائبنا للرحيل، ولنترك إسرائيل تحترق".
الرئيس الأميركي يعتقد أن نتنياهو لصناعة الحرب، وقد انتهت دون أن يكون منطقياً، من الناحية السيكولوجية على الأقل، أن يطرح لصناعة السلام. لا بد من البديل. الخطوة الأولى بتفكك، أو بتفكيك، الائتلاف واجراء انتخابات مبكرة تأتي بشخصية أخرى على رأس الحكومة.
أشياء كثيرة، تتعلق بمستقبل الشرق الأوسط، ينبغي أن ننتظرها من دونالد ترامب. اذ تغير الكثير في المشهد العربي، لا بد أن يتغير الكثير في المشهد الاسرائيلي . المؤرخون الجدد رؤوا، غداة توقف أوديسه الدم، أن نتنياهو سيكون آخر قتلى الحرب. يتوجسون من أن تكون إسرائيل هي القتيلة الأخيرة، لكون الأداء الخارق للمقاتلين اللبنانيين والفلسطينيين أدى إلى زعزعة البنية الأيديولوجية، والبنية الاستراتيجية، للدولة العبرية. لقد سقطت اسبارطة، وسقطت الأسطورة...