السجال الفكري والسياسي ما بعد حرب غزة - 2 -

آراء 2025/01/27
...

 ابراهيم العبادي

 في نهاية مقال الأسبوع المنصرم، ذكرت أن مرحلة فكرية -سياسية ستبدأ في منطقتنا، وأن السجال سيشتد انطلاقا من مفهومين مركزيين سيكونان محور الجدل والنقاش، المفهومان هما ما بعد العلمانية وما بعد الإسلاموية.

الدافع الأساس للحديث عمّا بعد العلمانية هو الاقتناع بأن مقولة العلمانية الصارمة التي تعادي الدين وتصر على إقصائه من الحياة الاجتماعية والسياسة، واختزاله إلى علاقة فردية إيمانية بين الفرد وخالقه، بدأت تتراجع عمليا (عند نخب الفلاسفة والمثقفين) في البيئة الغربية، التي جسدت نموذج الإقصاء هذا، قبل البيئات الأخرى، اثبت الدين حضوره الاجتماعي والقيمي والأخلاقي وحاجة المجتمعات إلى موجه لخيارات الأفراد ومقوم للمواقف العامة، عادت الأحزاب المحافظة التي تسمي نفسها (الديمقراطي المسيحي، الاجتماعي المسيحي) أو بأسماء اخرى تحمل القيم المحافظة ذات الصلة بالدين والتراث المسيحي تستقطب الجمهور، بما يؤشر إلى عودة اجتماعية (ما زالت سطحية وليست ظاهرة) واستجابة سياسية لتلقيح الفكر السياسي اليومي بأخلاقيات وقيم نابعة من الموجهات الدينية، خصوصا ما يتعلق بالعائلة وبالعلاقة مع الآخر الديني أو الثقافي. 

صحيح أن الغرب لم يشهد فصلا قاطعا مع الدين، كما ذهبت إلى ذلك اتجاهات متطرفة نادت بإقصاء الدين وعلمنة الحياة بالكامل، وفق منظورات مادية، لكن اتجاهات ما بعد الحداثة صارت تنادي عمليا بإنهاء (تألية العقل) ومركزية العقل (احتكار المجال العام له) والعلموية، والعودة إلى ما يحقق ذوات المجتمعات، ثقافيا وإيمانيا عبر الدين والقيم الميتافيزيقية. 

هذه العودة وان لم تكن بإيقاع سريع وعميق، لكنها تجسد اعترافا بأهمية الدين في المجال الاجتماعي العام، وبنهاية مرحلة متطرفة كانت تعلن (موت الاله) ووضعية الدين، وكونه اختراع بشري انتهت مرحلته.

ما يترتب على ذلك أن الدين سيعود إلى مجاله ووظائفه، وانه لن يكون هامشا، كما انه لن يتوسع، ليستولي على المجال السياسي والسلطوي بالشكل الذي تريده الاتجاهات الإسلامية الحركية من دعاة الدولة الدينية.

في المجال العربي الإسلامي - وبعد حصاد التجارب العملية -، تتجه القوى الإسلامية مضطرة إلى مراجعة أدبياتها وأفكارها المتعلقة بنموذج الدولة، وأسلوب الحكم وممارسة السلطة وبناء السياسات، وكيفية إدارة العلاقة مع الآخر المحلي والدولي.

بعد تعذر وإخفاق تشييد نموذج الدولة الإسلامية مثل ما خطته أفكار المفكرين والمنظرين الإسلاميين، وتراجع الحركات الإسلامية عن حتمية إقامة هذه الدولة، والاكتفاء بالمحركات والشعارات ذات الصبغة الدينية، تتجه هذه الحركات إلى التوافق التدريجي مع شروط إدارة المجتمعات وتنميتها، والتقنين لها وفقا لمنظورات المصلحة العملية والمسايرة الاجتماعية، لم تعد إقامة الدولة الإسلامية حلما زاهيا كما صاغته مخيلة طلائع الوعي الاسلامي في مرحلة سبقت عالم اليوم، مجتمعات الألفية الثالثة ليست حريصة على النموذج الديني بوصفه حلا سحريا للمشكلات، الناس تحتاج الدين أخلاقيا وقيميا ليملأ حياتها معاني سامية، وتحتاجه ليوجه حياتها نحو الفضيلة والحياة الروحية المفعمة بالإيمان والحب والتسامح والسلام والتصالح مع الذات والآخر، لا ليأخذ الناس إلى مشاريع ومسالك لا تنتهي من الخصومات والحروب والتحريض والرؤية الأحادية، وتمركز السلطة وفقدان الخيارات السياسية الأكثر ملاءمة للمصلحة، المسلم المعاصر يريد عيشا كريما وحقوقا وحريات وتنمية وكرامة، ومشاركة فعلية في السلطة، وديمقراطية عملية يصنع فيها مستقبله ومستقبل أجياله، نموذج الدولة الدينية ونموذج الحركات التي تتولد من أفكارها يوشك أن يغادر، تحت ضغط الواقع المعقد، ونتيجة لعدم القدرة على التوائم مع مقتضيات وحتميات وثقل هذا الواقع حتى إن كان جاهليا ومشوبا بالكفر والظلم والاستكبار، كما سمته بعض أدبيات الإسلاميين.

لقد انطلق نقاش جاد -في ايران مثلا- عن مساحة سلطة ولاية الفقيه وعمرها ودور الأمة في الاختيار وتقرير السياسات، وماهي الأولويات التي تحظى بالتركيز، الداخل أم مشروع الخارج، وسينطلق نقاش فعلي خارج ايران، عن مشروعية وجود قوى تحمل السلاح وتنادي بشعارات إسلامية إلى جانب وجود الدولة ومؤسساتها وقوانينها، المشتقة من دستورها الذي توافقت عليه القوى الاجتماعية والسياسية المختلفة مذهبيا وقوميا، ستبرز الأسئلة الأخطر (برزت عمليا ) عن شرعية حمل السلاح خارج اطر الدولة، وما شرعية العمل وفق منظورات تتصادم مع مفهوم سيادة الدولة، والدولة الوطنية وشرعية الانفراد بسياسات ومواقف تخالف السياسة العامة للدولة، اذا انطلق هذا النقاش الضروري عمليا ومعرفيا وهادئا وهادفا، فإن ما يترتب عليه سيكون مهما ومصيريا، ينهي حقبة من الالتباسات المفاهيمية، ويعيد توطين الفكر ليتناسب مع مصالح كل دولة ومجتمع، وليس فكرا أمميا يتحرك مركزيا، ولا يراعي مصالح وظروف وخصوصيات المجتمعات وتعددياتها، واختلاف منظورات مكوناتها لمصالحها.