يظلُّ السؤال في الفن والأدب، وكما في بقية الفنون الإبداعيّة الأخرى، عنصرا فعّالا ومهما. فلكل عمل فني سؤاله، وربما أسئلته، التي يبني عليها تلك التفاصيل والعناصر الفنية والفكرية وكل القيم الجمالية الأخرى.
هكذا يتجسّد فيلم "لا تخبروا أنجلينا" سيناريو محمد حياوي وإخراج ذو الفقار المطيري وتصوير عماد مصطفى، فهو يبدأ من العزف والغناء على وجع المأساة على الحجر والأخشاب المدمّرة التي لفظتها حرب قاسية.
متعة القصّ
الفيلم يقطع رحلته الشاقة والمؤلمة إذ يبدأ روائيا ببداية جميلة يصدح فيها صوت متعب، متهالك يجرُّ أنفاسه بصعوبة لثقل الحرب، ثم يأتي هذا الغناء ممزوجا الى عمق شاشة سوداء تؤكد أن هذا الصوت لم ينبعث من حياة، بل هو قادم من تحت أنقاض الموت، من هذا الخراب المذهل متجسّدا بلقطة عامة من الأعلى للموت الذي سحق الموصل وأغنيتها الشهيرة (يردلي ..يردلي) من خلال صوت الفتاة (الممثلة براء علي) المنقطع الحزين .. ويتمحور تضادا (فكريا ــ صوريا) ليعاود محاولاته بنهوض حياة ثقيلة حيث الأم (الممثلة رفاه المصري) منهكة محمّلة بتراب الحرب ودماره وهي تنادي بسؤال، وتظل تسأل ذات السؤال، والذي هو في حقيقته يعدُّ سؤال الجميع. ويمكن القول إنّه نداء الجميع عن هذا الخراب الذي لم يكن إلّا دمارا لمن لا ذنب لهم، وهو حقا براءٌ من جرائم الذين جلبوا هذا الموت، حتى وان كان هو الاسم الحقيقي للممثلة الفتاة (براء
علي). إنّ التداخل ما بين الروائي والوثائقي هو الذي منح الفيلم قدرته في تقديم حكاية ممتعة. فالوثائقي هوالجانب المشرق الذي يبعث الحياة في تلك الأزقة من خلال تجوال الممثلة الإنسانة الكبيرة (انجلينا جولي) لخلق حركة ما داخل تلك الحياة الميتة. حقا أن الجمال قادر على نفض غبار الموت عن الناس البسطاء.. وحقا أن الممثلة أنجلينا جولي قد زرعت فرحة، حتى وإن كانت صغيرة أو عابرة، إلّا أنّها أحدثت ما كانت تصبو اليه، فالحياة في الجزء الوثائقي من الفيلم أكثر نبضا، والصورة هناك استعادت ألوانها على العكس مما كنا في الجزء الروائي من الفيلم ذي الأحادية الغالبة في اللون. وفي تصوري هو تضاد فكري يخلق معايير متباينة في قدراتها على الإيحاء والإدراك الحسي. فهذه النغمة اللونية، التي يحافظ عليها الفيلم، هي التي أمدته بالبعد الفني في بنائية المشهد وفي البنائية الكلية للفيلم.
إنّ القدرة في البناء الروائي للفيلم واضحة، اذ يقف خلفها واحد من كتاب الرواية المتميزين، هو الروائي محمد حياوي الذي أتقن حكايته القصصية بأسلوب ممتع. وهذه هي تجربته الثانية مع المخرج المطيري، وكانت الأولى في فيلم "الهروب" الذي ظهرت فيه إمكانيات وقدرات المخرج ذو الفقار المطيري، والذي يتألق في فيلمه هذا باستخدامه لعناصر سينمائية أسهمت بفاعلية في صناعة فيلم يتمتع بخواص فنية وفكرية.
محاولات إخراجيَّة
منذ فيلمه الأول يحاول المطيري تبني الأساليب السينمائية التي يمكنها أن تمنح أعماله إمكانية التعبير عمّا يفكّر به وعمّا يريد أن يتعلّم منه. وفي تقديري هذه نقطة مهمّة لا بدَّ أن توجد لدى السينمائيين الشباب لأنّها الطريق السليم في تعلّم عناصر اللغة السينمائية.
إنّ الاشتعال الإخراجي على بنية الفيلم، من خلال (القصة، التصوير، المونتاج، التمثيل) هي التي تمنحنا وتساعدنا على رؤية دقيقة للفيلم والخروج بتأويل أكثر عمقا؛ لأنّ الأهمّ في النقد، هو القدرة على خلق نسيج من الفهم الخاص لما نشاهده، بمعنى وجود إمكانية عالية من التلقي ومن التذوّق الفني اللذين هما من أشكال
الإبداع. لذا، فإنّ استخدام التصوير البطيء جاء، كتعبير عن ذلك الدفق المتوثّب في روح الشخصية (الفتاة براء) لتحقيق أمنيتها الجميلة، التي كانت تنتظرها قبل موتها، وهذا ما أكّده لنا مدير التصوير عماد مصطفى الذي أكّد حضوره الإبداعي من خلال صورة سينمائية قادرة على دعم الحدث، والسير معه من أجل خلق تجانس بين اللقطة ومضمونها وجمالية تشكيلها، وارى أن التصوير وضع حوارا بينه وبين المتلقي، لذا جاء معتمدا على المشاركة مع بقية العناصر اللغوية السينمائية، ومن هنا أصبح الفيلم مانحا المتلقي فعل المشاركة عبر الوعي والشعور
والعاطفة. الفيلم جعلنا نفهم أنفسنا، ونسخر من مشاكلنا، من خلال حكاية جميلة السرد، قدمها الروائي محمد حياوي، معيداً بريق حياة حتى وإن كانت لفيلم قصير.