إحسان الجيزاني : ذاكرة وحنين الى المكان الأول

ثقافة 2019/08/19
...

جاسم عاصي
الطقوس المندائية
يلاحق الفنان ( الجيزاني) الماء وتأثيراه الطقسية والاجتماعية ، فبعد دخوله سحر الطبيعة في بيئة الأهوار ، والتوغل في غمرها واتساعها ، سار على منوال تتبع الأثر للماء في المعتقد الصابئي المندائي . فللماء عند أصحاب هذه الديانة قدسية ، استلهمته من التاريخ الموغل في القِدّمْ ، وسطرته في كتابهم المقدس(كنز ربا) ، لاسيّما نهر الفرات الذي ذُكر كثيراً في كتبهم . وها هو الفنان يرصد طقوسهم على ضفة النهر ، مستسلمين لطاقته الربانية ، معمدين أجسادهم ؛ مواليدهم وأعراسهم ومقتنياتهم بالماء الجاري في النهر ، عبر تلاوات من لَدُنِ شيخ متمرس في الأداء  تُبارك الإنسان وتُطهر وجوده.
تتميّز الصورة التي التقطها للطقوس الدينية ، كوّنها تُدقق في أهم الأداء الطقسي ، فمن الماء وإليه ، تلك الشعيرة المندائية وما يصاحبها من أداء ، بمثابة العنصر المهم لدى الصابئة المندائيين . فمعظم اللقطات أخذت بنظر الاعتبار سعة الفضاء ، سواء كان على البقعة التي يمارس عليها الطقس ، أو امتداد ضفاف النهر . فالصفاء والنقاء الفضائي هو السائد على كادر الصورة ، حيث لا يعم سوى البياض اللباس الديني، فكل شيء مغمور بصفاء البياض . فلا أدوات هناك غير العصا المقطوعة من شجرة مباركة ، وأواني من الألمنيوم (الفافون) الصقيل لحمل الماء من النهر . إذ ترافق طقوس التعميد والمباركة ؛ جملة شعيرات كوضع يد الشيخ الطاعن في السن والمعرفة الدينية على رأس المُعمَدْ ، وغرف الماء من سطح النهر وسكبه على رأسه ، ونعني به التطهير لاستقبال عام جديد خال من الذنوب وشوائب الدنيا . وثمة أداء يقترب من طقس الوضوء والاستعداد للصلاة عند المسلمين ، عبر الجلوس قرب النهر وغرف الماء ومسح اليدين والوجه والرأس . كما وتتجسد قدسية شجرة الزيتون ، عبر المسك بغصن ومسح الوجه ، أو وضعه على العينين والجبهة ، ومرافقة هذا بأداء لفظي  بآيات من كتابهم المقدس أو مفردات الدعاء إلى الله القدير  إن الترديد الجماعي والاتحاد بالأيدي واحد من طقوس العبادة المندائية . فكل شيء في كادر الصوّر التي التقطها الفنان تنطوي على نقاء ونظافة وطهارة وصفاء روحي ..لقد عمد الفنان على تجسيد فضاءات الروح عند الصابئي ، بفضاءات الأمكنة ، وسحر سطح الماء وسمة السماء الصافية . كذلك اهتمامه بنوّع اللقطة ودلالاتها الطقسية ، فصوره لم تكن عشوائية الأداء والاختيار، بل مبنية على استلهام روح المعتقد والبناء عليه صُرحاً فنياً خالصاً . وهو تجسيد لوظيفة الصورة الفوتوغرافية من بين الفنون والأجناس الإبداعية 
الأُخرى . 
 
الأرصفة 
الرصيف واحد من الأمكنة التي رصدها فنانو الفوتوغراف ، لأنها تحتوي على فعاليات وظواهر مختلفة ، لعل إيواء المنقطعين في الدنيا والمطرودين عن مجالهم الحقيقي واحد من الملاذات لهم ، طلباً للرزق(الكَدية) . المهم يكون الرصيف مكان احتواء المتناقضات في الحياة . وقد لاحظنا ذلك كثيراً في لقطات الفنان(ناصر عساف) حصراً . أما الفنان(الجيزاني) فقد حمل رصيفه  التناقض الحاصل بين وجود المرأة التي افترشت الأرض للكَدية ، وبين الفتيات اللائي يقفن قرب صرّاف آلي لاستحصال المال من الرصيد . هذا الرصد الفني أضفى على وجود المرأة البائسة معنى عبر نظراتها للفتاتين . فهي إما عالجت ذهنياً ما يجري أمامها ، أو هي بانتظار ما تجود به أيديهن بعد استحصال المال . والأرجح هو الاعتقاد الثاني بسبب الممارسة اليومية لهذه المرأة واختيارها المكان عيّنه كسبيل للتوّفر على المال .وقد راعى عكس هذا التناقض ، من إظهار بؤس ملابس المرأة والفتيات المتواضع ، لكنه الأنيق في الجانب الآخر كانت لقطة الجزء من جسد رجل لم يرصد ملامحه ، فقط أظهر أسفله ، القدم وجزء من اليد .وقد ركز على قطعة الخبز المستقرة على قطعة كارتون . كانت اليد أكثر دلالة ، بما تحمله من وشم وتجاعيد دالة على شيخوخة الرجل . أنها لقطة حققت رؤية صورة البؤس الذي تحفل به الحياة اليومية .بينما المشهد المألوف أن تجد امرأة طاعنة في السن ، تتخذ من الرصيف مأوى لها ، يضم كل حاجاتها من فراش وملابس وأدوات اعداد الطعام ، إنه سكن في خلاء موحش ، وبلا سقف . هذا الاهتمام من لدُنْ الفنان دال على الاحساس بالفارق الطبقي الذي يعيشه إنساننا. فهو إما متخم أو محروم . لقد راعى الفنان في متحقف صوّره الجانب الفني ، كاستعماله للضوء والظِل بمهارة ساعدت على عكس الجانب النفسي للنموذج ، كذلك طبيعة المجال بما يحتويه ، والذي أسهم في عكس بؤس الإنسان . فنقاء الصورة لا يُلغي مرارة العيش . كما وانه اهتم بتجسيد الجزء لاستكمال صورة الكُل كاليد وتقاسيم 
الوجه .
 
مجزرة  النخيل
لم يغفل الفنان عن مجزرة القتل التي تعرض إليها وجود النخيل في جنوب العراق . فهي دلالات وحشية لمشعلي الحروب . فبعد أن طالت يد الحرب الإنسان ،مدمرة وجوده المادي والمعنوي ، طالت تلك اليد وبعد الهزيمة إلى قتل النخيل ، قتلاً جماعياً ، فالقاتل يعرف ما يكمن من معنى ويخص مصير الإنسان الجنوبي في علاقته بالنخلة . فجز رؤوس النخيل يعني موّتها الأبدي . فحياة النخلة في رأسها وكثافة سعفها النابت على قلب كبير ذي عطاء لا ينقطع . فهي جريمة لا يمكن تفريقها عن جريمة قتل الإنسان بمبرر الدفاع عن الأرض والمبدأ . فموت عناصر الطبيعة ، يعني موّت الأجيال ، بعد الفقدان المرّ الذي شمل كل شيء في الوجود العراقي ، ممتداً بتأثيره إلى أزمنة لاحقة . فمن الصعب التفريق بين مؤثرات الحرب على حياتنا الحالية ، فكل ما حدث نتيجة لجريمة كبيرة ما زال يمارسها ذوو العقول التي لا تعرف سوى صناعة 
الموت . 
و(الجيزاني) بتركيزه على آثار الحرب وتطاولها على النخيل ، يعني وحشيتها بما تتركه من دمار . حاول الفنان باختياراته لمثل هذا المشهد أن يجسد الكل والجزء ، وإظهار المساحات من الأرض المفروشة بالجذوع اليابسة والفاقدة 
للحياة .، وسط فضاء تُطغي عليه علامات الموّت ، لاسيما تلاعبه بالأسوّد والأبيض ، فالظّل قد غلب على مشاهد الموت ، ليسطر سمفونية لوّنية للموّت الجماعي ، وتجسد تراجيدية الدمار الذي أُلق بالطبيعة ، أي بتاريخ الأرض ، خاصة وأن صوّر المجزرة أظهرت جريمة كهذه في مدينة الفاو الجنوبية .إن الفنان(إحسان الجيزاني) في مهجره ، لم يغادر ذاكرته في كل ما جسدته فوتوغرافياً . وهذا جزء من الحنين الروحي للمكان الذي ترعرع في حاضنته .مما دفعه إلى أن يهتم ويعكس جمال الأمكنة المختلفة ، والطقوس التي رافقت وجودها . كما ذكرنا عبر مسح لتجربته في اختيار لقطات وزوايا صوّره 
الفوتوغرافية .