بُنى التراحم لإدامة الحياة

العراق 2019/08/20
...

فيرن نيوفيلد ريديكوب
ترجمة: سهيل نجم 
كنت قد عملت على تطوير مفهوم البنية المحاكاتية للتراحم بعد أن قمت بتحليل أزمة اوكا/ كانيساتاكي. نشأ لدي إحساس بالخشية من وجود شيء أقوى من جميع الأفراد الذين كانوا متورطين في الصراع يدفعهم إلى افتراض وجود إطار مرجعية عنيف ويجعلهم يفعلون أشياء كانوا سيرون، في مواقف أخرى، أنها بغيضة. بدا الأمر كما لو أن هناك يداً خفية تحركهم، إلى درجة أن المرء في مراحل مختلفة يكاد يسمع “الممثلين” يقولون: “لم يكن لدي خيار آخر سوى...” لأني فكرت طويلاً في هذا المفهوم وراقبته وهو يمارس تأثيره في الحوادث، فقد رأيت ذلك يحصل لي شخصياً في بعض المواقف التي تنطوي على صراعات؛ بعد مجادلات مع زوجتي شعرت بالانزعاج بشأن بعض الأمور التي قلتها، لأن تلك الأمور لم تكن تتماشى مع الحب الذي افترض أني أبادلها إياه. عندما تأملت عميقاً في هذه البنى أدركت أن لا بد من وجود شيء أقوى في قوته الحركية من البنى المحاكاتية للعنف هذه. فيما كنت ابحث عن كلمة تعبر عن دافع ايجابي يقابل القوة السلبية التي يتضمنها العنف، تذكرت دراسة موسعة كنت قد أجريتها على كلمة “أرض” التي وردت في سفر التثنية وارتباط الأرض بالبركة أو التراحم. في ذلك السياق، كانت الأرض مصدر البقاء، وتلبية الحاجات والازدهار. الأرض بوصفها بركة تشكل جوهر البقاء والحياة بصورتها الشاملة ــ الأرض هي الديمومة، والوجود الخلاق الذي يستمر من جيل إلى الآخرــ سألت الكثير من الناس عن كلمة يمكن أن تعطي المعنى نفسه وإلى الآن لم اعثر على كلمة أفضل تعبر عن المفهوم الذي أريد نقله من كلمة “تراحم”. 
لأن مفهوم البنية المحاكاتية للعنف هو المفهوم الأول الذي عملت على تطويره، فقد شكل وسيلة مساعدة لاكتشاف البنى المحاكاتية للتراحم. هذا لا يعني أن العنف هو نقطة البداية. لقد ناقش ماثيو فوكس هذا بأسلوب بليغ وقال إن النظرة إلى عالمنا تكشف عن أسبقية التراحم الذي يوجه مسار العالم وما العنف إلا شيء دخيل. لقد أصبح العنف هو المسألة الجوهرية في وقتنا الراهن، خاصة وأن الأمر يتطلب الكثير من التراحم للتغلب على الانطباع القوي الذي يخلفه العنف في عالمنا. في الدين الإسلامي، تضاعف الحسنة بعشرة أمثالها. أما السيئة فجزاؤها لا يتعدى سيئة مثلها. اتضح لي أن الأمر يتطلب كتابة عشر مقالات صحفية ايجابية عن شخص معين للتعويض عن الأثر الذي تتركه قصة سلبية سبق أن كتبت عنه، عن طريق اختراق بنى العنف والوصول إلى أعماقها يمكننا تلمس نقاط ضعفها. يؤمن لنا تفكيك البنى المحاكاتية للعنف الذي تناولناه في الفصول 1 إلى 8 اللبنات الضرورية ليس لإحياء بنى التراحم فحسب، لكن لخلق بنى جديدة ربما لم نكن نتخيل وجودها أيضاً. كان الهدف من دراستي للعنف لمدة أكثر من عقد محاولة اكتشاف مسارات التراحم ضمن سياق صراعات مستمرة والتأثيرات المدمرة للعنف. 
تعطينا القصة التالية، التي سبق أن تناولناها، أفضل توضيح للاختلافات بين البنى المحاكاتية للعنف والبنى المحاكاتية للتراحم.            
توفي سادابا ورحل إلى العالم الآخر وطلب الاطلاع على الاحتمالات التي يمكن أن يلاقيها المرء. كانت الجحيم هي الجهة الأولى، حيث هناك مجموعة من الناس البؤساء والضعفاء، الذين يتضورون جوعاً، يقفون وقد أحاطوا بطاولات الطعام. المشكلة هي أن شوكات الطعام التي لديهم كانت أطول من أذرعهم فلا يتمكنون من إيصال الطعام إلى أفواههم. وفي الجهة الأخرى، هناك الجنة مجموعة من الناس المترفين المتخمين يقفون أيضاً حول طاولات الطعام. بعد المراقبة عن كثب، لاحظ سادابا أن لدى هؤلاء شوكات طعام مماثلة لتلك التي لدى سكان الجحيم. لكن الاختلاف الوحيد أنهم كانوا يطعمون بعضهم بعضاً. 
في هذه القصة كان الفضاء المادي متماثلاً. لكن الاختلاف بين الموقفين يتمثل في البنى الفكرية ومنظومات القيم لدى جماعتين من الناس. في الجحيم هناك بنية محاكاتية للعنف ــ هي محاكاة لأن كل شخص كان يحاكي غيره في تجنب مساعدة الآخرين؛ وهي بنية لأنها تعبر عن نمط مستمر ولذلك تجدهم ضعفاء وبائسين؛ وهي عنيفة لأنهم كانوا يمنعون عن بعضهم شيئاً يعد من ضروريات البقاء بالنسبة إليهم جميعاً.