من {حرفيات} فن العمارة إلى {جماليات} التشكيل

ثقافة 2019/08/20
...

جمال العتّابي
 
 مازال المعماري خالد السلطاني منحازاً إلى كشوفاته المعمارية التي يعبّر عنها دائماً بالبحث والدراسة الأصيلة ،والمتابعة لفن العمارة ، بحرصٍ متناهٍ ، وكأنه يعالج أمراً جديداً في غاية الدقة والتعقيد ، ثمة حوار خفي بين الصورة والمثال لديه ، بين الغائب والحاضر ، بين المنظور والمضمور ، لكنه حوار محكوم بإمتحانات الإنسان ومجاهداته وأقيسته ، ذلك لأنه حينما أقام وحدته مع العمارة ، أصبح منحاه الوجودي ، وهو تاريخ مقروء بالصورة ، والمعاودة الحرة للأصوات الداخلية التي
 تبعثها العمارة .
وإمتلك خالد السلطاني حقه التاريخي ، انه استطاع من أن يحيل هذا الفن إلى مادة مكتوبة ومقروءة ، مكّن بها القارىء غير المتخصص أن يجد في ما يكتبه السلطاني عبر الصحافة ، قدراً من التناغم والتوازن مع الفن المعماري الذي تتسع فضاءاته ما بين العلم والهندسة والتشكيل ، فألف مبانيه الخاصة بمعانيه المبسطة والجميلة ، إلى فن يفهمه العامة من الناس ويتذوقوه ، فهو يقول : تمكنت من نقل العمارة من خانة الأرستقراطية اللمّاعة ،أو من برجها العاجي ، وأحلتها إلى فن يهفو إليه الإنسان ، وإستطاع أن يستبدل (حرفيات) فن العمارة ، (بجماليات) تشكيل منظورة ومقروءة ، وإذا جاز لنا التشبيه ، يمكننا القول ان السلطاني في منطلقاته تلك ، يماثل الأثر الذي تركه ماركس في الفكر الإنساني ، إذ جعل الفلسفة تمشي على رجليها ، بعدما كانت تسير على رأسها مع (هيغل) ، ليظل الفن المعماري موصولاً بالإنسان ، متآلفاً معه .
 
رحلة ابداعية
بدأ خالد السلطاني رحلته الإبداعية في هذا العالم من جوف تلك المدينة المظللة بالنخيل ، والمطلة على نهر دجلة ، من (الصويرة)الواقعة جنوب العاصمة ، التي يختصرها بـ(كراج الصويرة) والإذاعة ، لأنهما الموقعان الوحيدان اللذان يعرفهما السلطاني في بغداد ، وتحسست يداه زمناً من خشونة المدن العراقية وفقرها ، وعانى من شحّة الحياة ، وتقاسم وعائلته  طعم الفاقة مع أبناء مدينته ، عائلته التي فقدت الأب بحادث سير منذ سنوات عمره المبكرة ، وكان هذا الحال محفزاً للتفوق في مراحل الدراسة جميعها ، بدءاً من المتوسطة والثانوية في الكوت ،وفي أعلى مراحل الدراسة في (الإتحاد السوفييتي) ، إذ تمتع ببعثة دراسية حكومية بعد
 تموز58 .
إمتدت رحلة السلطاني سنين طويلة كان يبحث من خلالها عن حافز مثير يحمله على تكوين مأثرته الفنية المعاصرة ، فوجد في العمارة العراقية مفردات متناثرة ، إستطاع أن يحيها على رجيع نبض قلبه وروحه ، وأسئلة وجوده ، ووجد فيه باعثاً يغرينا بالتأمل في النقوش والأقواس والحجارة ومواد البناء والشناشيل ، والتصاميم الهندسية ، وظهرت محاولاته وكأنها مصائد سحرية لاقتناص أسرار هذا العالم الذي لاسبيل إلى إدراك إبعاده ، إلا بفهم الانسان الفنان الذي
 أوحى بها .
يقول خالد السلطاني بتواضع شديد عن نفسه : أنا معلّم ناقل للمعرفة ، مهنتي معلم ، وهي مهنة عظيمة ونبيلة ، وقادر على أدائها ، كنت مغرماً بكتابات يوسف السباعي منذ صغري ، تعرفت على تفاصيل حياته ، قرأت في الأدب ، القصة والرواية ، وبدأت رحلتي في القراءة منذ أن أطاعت على مجلة الهاتف لجعفر الخليلي في أربعينيات القرن الماضي ، لفت إنتباهي مشهد أحد شهود محاكمات (محكمة الشعب) عام 59 ، وهو يحمل حفنة من التراب ، يعبرعنه كرمز للإرتباط بالوطن .هذا الرمز تحول إلى ديوان شعر للجواهري رافقه طوال
 سنوات الدراسة .
 
ديوان الجواهري
 كان السلطاني يعدّ الجواهري قديساً للشعر ، فراح يبحث عن ديوان له في مكتبات المتنبي ، ووجد ضالّته في المكتبة العصرية ، وكانت اولى الخطوات للقاء الجواهري بمكتبه في جريدة الرأي العام على مقربة من مقهى الزهاوي ، ملتمساً إياه أن يذيل الديوان بتوقيعه ، فنال مراده وحقق مبتغاه ، ولابد أن يقطع مسيرة الزمن وهو يحمل قصائد الجواهري ، يستعيد بها الوطن ، وصوته العميق ، وضفاف الصويرة وبساتينها .
همست للسلطاني وهو يأخذني في جولة بمتاحف كوبنهاغن وعمارتها الجميلة، هل تأثرت بفن العمارة الروسية ؟ كيف لا! 
يجيبني:أود أن ألفت إنتباهك الى ان الحداثة في العمارة بدأت من هناك ، منذ عشرينات القرن المنصرم ، من صنع كل هذا الجمال في المتاحف والقصور والمباني ؟ كيف تآلفت كل الرموز التاريخية والفنية بقوة الأداء والأصالة والتعبير ؟والوفاء للمدرسة الروسية في الفن المعماري ، فتحولت إلى أثر إنساني خالد لايمحوه الزمان ، انه الينبوع الذي نهلت منه .
 السلطاني وهو يقترب من عامه الثمانين ، لايزال يمتلك أعلى طاقة روحية ممكنة ، ليضعنا دائماً نقف بدهشة لقدراته الإبداعية ومنجزه المعرفي
 والمعماري .