زعيم نصّار
ربيع الثعلب، أو عريض هذا الخريف وأعرض منه جباهنا، أو نشيد جذل بمناسبة ربيع الموت والحرب والجلاد الذي استبدّ وفتك بالحياة كثعلب كبير، المكتوبة والمنشورة في سنة 1982 في مجلة الكرمل. هذه القصيدة من قصائد النثر الأولى في لحظتها الرابعة أو الجديدة التي استمرت وشاعت من بداية الثمانينيات حتى هذه اللحظة. اما اللحظات الثلاث التي قبلها، فكانت لحظة العشرينيات لروفائيل بطي ومراد ميخائيل، ولحظة الخمسينيات لحسين مردان بامتياز، ولحظة الستينيات لسركون بولص واسماء
اخرى.
قبل نشر ربيع الثعلب كانت قصائدنا النثرية معتقلة في ادراج محرري الصفحات الثقافية، والمجلات الأدبية. وهم من الشعراء الذين سبقونا في النشر منذ عدد مجلة الكلمة الخامس سنة 1974. وكانوا يكتبون قصيدة التفعيلة البسيطة، او الشعر السهل الممتنع كما يسمونه.
الانقلاب الشعري الذي حصل بعد نشر قصيدة ربيع الثعلب بحمى التنافس على ريادة أو لحظة جديدة تتبنى كتابة قصيدة النثر والتنظير لعودتها المغايرة مع الادعاء اللافت الى القطيعة مع امهاتها وابائها في الشعر العراقي.
بقيت قصائدنا النثرية معتقلة في الادراج، وبدأ محرروا الصفحات الثقافية، نشر قصائدهم النثرية الطويلة، مدعين انهم رواد كتابة قصيدة النثر في لحظتها الرابعة، بعدها بدأت الثعالب الصغيرة تكبر، وتمّ الافراج عن قصائدنا ليلتبس المشهد بيننا وبينهم، وبدأ الثمانينون لحظتهم الحقيقية، وهم يرددون جملة شعرية هي: ( وكلُّ جلدٍ نجا شمسُ ) التي يختتم بها الشاعر شاكر لعيبي قصيدته (ربيع الثعلب) التي استنسخت منها آنذاك عشرين نسخة لأوزعها على اصدقائي سرّا وعلانية في مقهى حسن عجمي.
مفتتح للمشهد الكلي
نستطيع ان نقرأ قصيدة ربيع الثعلب قراءة رؤيوية لنحول عنوانها الى عبارة نثرية هي: ( نحن والحرب، الارض وزمن الطاغية).
ان الأنا في القصيدة تجردت عن اطارها الشخصي الذاتي لتنطق باسمنا نحن العراقيين، والانسان على الارض. انا النص متجسدة في كيان خارجي وموضوعي، متحولة الى مختبر لدراسة الذات البشرية في مواجهة الحرب والطغيان، مواجهة الضحايا لجلادها، تدرسنا في تقلباتنا فوق تيار الوجود والعدم، الساعات والأيام، الفصول بربيعها وخريفها، الارض في الاصبع كالكشتبان، التبدلات، مصائر النساء والرجال، الحيوان والنبات، الاعداء والاصدقاء، المدن والتاريخ.
عريضٌ هذا الخريفُ
وأعرضُ منه جباهـُنا
نضعُ الارضَ في الاصبعِ كالكشتبان
عريضٌ هو جوعُـنا الاخدوديُّ
وطويلةٌ حبالُ غسيلِ ارواحـِنا
كلُّ مأذنةٍ رمحٌ تركزَ في الهواء
وكلُّ شجرةٍ نافورةٌ من غصونٍ وخضرة
نضعُ الارضَ فوق الرؤوسِ كالقبعة
ونسيرُ تحت المطر.
النساءُ حـَمامُ المدن
ونحن الرجالَ، ذوي الأجنحةِ القوية
ندخلُ الحربَ كما ندخلُ السيرك
وندفعُ الأعداءَ كما ندفعُ الآنيةَ من فوق النار
نمشي في بلادٍ غريبة
نـُصادفُ برقاً في عيونِ المُـتطلعين إلينا
ونساءً في خيماتـِـنا السَفـَريات.
هذا هو مقطعُ القصيدةِ الأول الذي يرفع لي الستار عن المشهد الكلي، مشهدنا والحرب، الارض وزمن الطاغية.
نحن والحرب
الشاعر نحن، وهو يعاين الدم المهدور على الموائد، وفوق مياه الاهوار، وعلى قمة الجبل، ليسأل ماذا سنحكي عن ايائلنا المذبوحة من رقابها؟ عن ضفائر صغيراتنا المرمية في الوحل؟ عن الكمثرى التي هي قلبنا المسروق؟
الشاعر يعاين المظالم ويحس آلام الناس، يتوحد مع دموعهم، ويلتزم بقضاياهم، يعبر عن مصائرهم، ويحكي عن مصائبهم، يربط مصيره بالفقراء، ويدافع عن حقوقهم، من دون ان يمنعه ذلك من تجويد قصيدته، والعنابة باسلوبه، وتطوير فنه، واحتلال مركز الريادة في حرفته، انه من شدة وفائه لوضعه الانساني، وتضامنه ممع بني وطنه ضد الظلم المشترك، انه من فرط وعيه لطبيعته الفانية، وإعراضه، عن اي عالم آخر، وأية اوهام ما ورائية، يتخلى عن اللعبة الجمالية المجانية، عن دور الشاعر المترفع، من اجل ان يرصد الظرف المصيري الراهن، ويتخذ المبادرة الايجابية الفعالة، باذلا جهده للاحتفاظ بصوته كشاعر مختلف ينقلب الى نار ثائرة تطمح الى القضاء على الظلم ، واضعا نفسه في خدمة الانسان ليخلد في نصه شقاءنا واعصار
هذه الحرب.
ماذا سنقولُ؟
ماذا سنخبركِ أيتها السـِيـَر
حينَ تواجهيننا بقناعكِ المدمى
وحينَ ترميننا كعظامٍ ملتمعة في العراء.
الشاعر يعرف اننا مادة رهينة في المكان والزمان الذي هو نهاية وموت، سلسة من التمزقات والقطيعات، هاوية ومتاهة عاجزة الا عن ابداع نفسها، فمسك جرأة التحديق فيها وجهاً لوجه، من خلال جرح العدم النازف في قلبه باستمرار:
نحن الذين قتلنا الملوك وقتلونا
عن اي شيء سنتحدث؟
كانت الارضُ ترتج تحتنا
والسماء تترنح من فوقنا
وكنـّا الأنسيين، وكما حليب أمهاتنا المرتج
وكنـّا المياه التي لم تنفك عن التقعر كالمرايا
والتقهقر كالمذعور.
الشاعر في ذاك الزمن وفي كل زمن يتحسس نفي الحياة وإفراغها من محتواها وناسها، ورأى الأرض سوداء تغطيها لافتات النعي التي خطها الطاغية بيده الملطخة بالدماء، فأختنق كل أمل، واستبد بقلوب الاهل شعور بالعبث واللاجدوى، واستشاط في الارض الزوال الذي هو ابشع من الموت واكثر عريا وعمقاً، وصالت الاشباح وجالت بنزعاتها النفعية والدونية، تخلت عن روح التطهر. هبت الاشباح بحيواناتها المفترسة كحاشية الطاغية .
حاشيتها، حاشيتها التي تحسدنا على بئرنا القروي
ويتمنا الصافي، وحبوب غلتنا الأكثر نقاءً
حاشيتها المسننة، الذهبية، السعيدة
الوالغة في هبائها
حاشيتها الخنفسائية
التي تتقدم وهي تحشرج
وتقف علينا بعيون الممسوسين
حاشيتهاالتي تقف بمشاعل من خرق قمصاننا
التي تعدنا بريبع جماجمنا.
خلصت الحياة بقوتها الشاعر شاكر لعيبي لينجو بجلده ويخرج سالماً من هذه الحرب، كما خلصت الحياة شعراء واصدقاء آخرين.
هربوا الى المنفى لتطوف حول رؤوسهم ارواحنا. غاب الذين أحبهم غابوا، وبقيت مثل قصبة نحيلة بين
المناجل.
علميني ايتها الحياة بأنك لست حادثاً طارئاً، ولا بنت المصادفة، أو عديمة الضمير. ولتقولي معي كل جلد نجا شمس.