ابراهيم العبادي
يتساءل الناس في العراق عمن يملك قرار الحرب والسلم، ويضع ستراتيجية الامن الوطني العراقي، بما فيها التهديدات، التحديات، نقاط القوة والضعف، والفرص التي يمكن استثمارها لتعزيز هذه الستراتيجية، فمنذ عام 1979، لم تعد اسرائيل كما كانت العدو الاول في العقيدة العسكرية والامنية العراقية،
لان نظام صدام اكتشف ان التهديد القريب لأمن نظامه، له الاولوية على التهديد الستراتيجي، المتمثل بحالة الحرب والعداء التي يمثلها وجود اسرائيل في المنطقة، واستمرار الصراع العربي - الاسرائيلي، نظام صدام ادرك بحسه الامني، ان انظمة المنطقة مهددة، بما عرف لاحقا بالتيارات الاسلامية وقوى الاسلام السياسي، التي استفاقت بسقوط نظام الشاه في ايران وتأسيس جمهورية اسلامية، كان التهديد الايديولوجي الاسلامي اولوية قصوى لدى نظام البعث وتوارت اسرائيل الى مرتبة متأخرة لم تستعدها الا مع انتهاء حرب الثمان سنوات ضد ايران، والتي كانت بمثابة تعديل جوهري في ستراتيجية الامن القومي العربي، عندما صارت ايران العدو رقم واحد وليس اسرائيل التي تتالت معها اتفاقيات السلام منذ كامب ديفيد عام 1978، لكن العيون الاسرائيلية لم تكن تغفل كل شيء يمكن ان يعود بالتهديد عليها رغم هذه الانعطافات الجوهرية في الفكر الستراتيجي العربي، ولذلك دمرت مفاعل تموز العراقي في حزيران عام 1981، وانتظرت انتهاء الحرب ضد ايران، لتبدأ سلسلة انفجارات غامضة في مصانع الصواريخ والاسلحة العراقية عامي 1988 و1989، تكهن الخبراء يومها بانها لم تكن عرضية، ولم يكن سوء التخزين او الاهمال او قلة الخبرات مسؤولة عنها، بل كان ذلك بايد خفية لم تكن اسرائيل بعيدا عنها ،
منذ ذلك التاريخ والعراق الخارج من معادلات القوة في المنطقة صار رقما هامشيا في التفكير الاسرائيلي حتى اندلاع الحرب في سوريا وتوافد فصائل عراقية مسلحة للحرب ضمن محور الممانعة، عند ذاك صرنا نسمع عن محور مقاومة يمتد من طهران مرورا ببغداد الى دمشق وبيروت، وكانت هندسة هذه المحاور تخضع لخطوط ايديولوجية وحسابات ستراتيجية تجمعها فكرة المعسكرين، معسكر المقاومة والممانعة، ومعسكر امريكا واسرائيل ومن تحالف معهما،
كان العراق الخارج للتو من الاحتلال الامريكي يرتبط باتفاقية اطار ستراتيجي تلزم الامريكان بالدفاع عن العراق وديمقراطيته الناشئة، ومع تزايد خطر التكفيريين ضد العراق صار من واجب الامريكان مساعدة العراقيين لتحرير اراضيهم من سلطة داعش التي تمددت في سوريا والعراق بسبب فراغ السلطة
والقوة، لكن العين الامريكية الاسرائلية كنت تحسب حسابا لنمو قوة مسلحة عراقية مدعومة ايرانيا،
تحمل ايديولوجيا مناوئة لامريكا وتفتخر بانتسابها لمحور الممانعة، من هنا بدأ التعامل مع هذه القوة وفق منطق خاص لا يأخذ بعين الدقة ظروف العراق واضطراباته وانقساماته، ان العراق الخاضع لمؤثرات وخطوط النفوذ الخارجية لم ينجح في بناء منظومته الدفاعية الموحدة بعيدا عن تأثيرات الخصوم في المنطقة،
فلامريكا حضور طاغ كما لخصمها ايران، وكان العراق هو المختبر المفضل بين هذه الاطراف لرصد اتجاهات القوة والتأثير والحسم، فما ان تصاعد الخلاف الايراني الامريكي، حتى شحذت كل الاطراف اسلحتها، وجاءت تتبارز بقواها الخفية والمعلنة على ارض العراق، فالعراق هو مفتاح السلام والحرب، وعودة العراق قويا مستقلا تعني اختلال معادلات القوة والنفوذ في المنطقة، هكذا اقتضت مصالح كثيرة،
ان يكون العراق فاقدا لمنطق الدولة ولا يملك بنفسه قرار الحرب والسلام، وليس بوسعه تعبئة موارده وقواه واسلحته الفكرية والمادية على اي قضية مصيرية، فالعراقيون مختلفون، منقسمون على كل شيء، ومثلما لايران مؤيدوها وانصارها وحلفاؤها،
نجحت امريكا وحتى اسرائيل في تحييد قسم كبير من العراقيين الذين صاروا يخشون من كل قريب من محور المقاومة ولا يخفون دعواهم في الاعلان عن عدم ايمانهم بفكرة الصراع مع اسرائيل ولا بخروج امريكا من العراق المحنة العراقية ستزداد عمقا مع ازدياد الصراع بين المعسكرين (الامريكي والايراني) ،
وبطبيعة الحال والثقافة والمزاج الشعبي والفتاوى الدينية، فان من ينحاز ضد شعارات وفكر وايديولوجية معسكر المقاومة سيصنف امريكيا - اسرائيليا، خصوصا مع تزايد الدلائل على تورط اسرائيل بتدمير معسكرات القوى الحشدية العراقية، هنا لن يكون الموقف خاضعا لحسابات عقلانية بل بحسابات الايمان والكفر،
مع الله ام مع الشيطان الاكبر، وعليه فنحن ذاهبون الى فوضى الحروب مجددا، ما لم تملك الدولة قرار الحرب والسلام وتكون قادرة على توحيد الناطقين باسمها المعبرين عن مصالحها،
لا مجال في مثل هذا الواقع للذهاب الى خيارات تنسف الاستقرار الهش في العراق، وليس الفصل الراهن فرصة لاستبدال قوى باخرى ولا بهيمنة جماعات على قرار الدولة،
والذي ينبغي ان يحسب حسابا عراقيا بحتا بامكانات وقوة العراق الحالي وليس بالمراهنة على شريك او حليف، ارى ان العراق متجه الى نموذج صراعي مع اسرائيل على الطريقة السورية، اسرائيل تقصف وتدمر بدقة محسوبة،
وامريكا تقسم بايمان مغلضة بانها لم تعط اشارة خضراء ولم تنسق مع تل ابيب، والمقاومون يتوعدون بالرد في الوقت والمكان المناسبين، لكني ارى هذا الرد سيقع على شركات نفط امريكية مثلما حصل في برجسية البصرة وقنصلية ترامب المجاورة لمطار المدينة المدني. وفي ذلك لن تخسر امريكا ولا تتضرر اسرائيل المعتدية، بل سيتضرر العراق الفاقد لمنطق الدولة بالمفهوم الذي صاغه ماكس فيبر وأعني به احتكارها للعنف والسلاح .