بين القصة القصيرة جدا وقصيدة {النثر/ الومضة}

ثقافة 2019/08/26
...

د. جاسم خلف الياس
 
يتحدد التشاكل والتباين بين الشعري والسردي في قصيدة النثر أو الومضة والقصة القصيرة جدا بالكثافة، والخيال، وقوة الأسلوب، والاستعمال الإيحائي للكلمات، إذ تجود اللغة بأقصى طاقاتها التعبيرية دون الابتعاد عن الطابع السردي، فالضغط النوعي المتولد من تماس قصيدة النثر أو قصيدة  الومضة مع القصة القصيرة جدا، يحاول استلاب هوية كل منهما في بعض الأحيان إلى حد يصعب التفريق بينهما، وقد تجلى هذا الضغط بشكل خاص في القصص التي خلت من (القصصية) بوصفها (المهيمن) على آليات القص واعتمدت على مركزيتها الداخلية وزمنها النفسي وتتابع تفصيلات محددة، وكذلك قصيدة الومضة النثرية التي تخلو من الايقاع؛ ولأن قصيدة النثر قد تخلت عن مسار التقليد الشعري ومحدداته التقليدية (الوزن، والقافية) ولم يعد انتماؤها إلى النص الشعري سوى الميثاق المتعارف عليه بين الشعر والمتلقي؛ لذا فقد تحدد الاقتراب بينهما عبر الاشتراطات الفنية التي تحدد التوافق والتفارق بينهما.
إن هذا الرأي يرضخ إلى المبالغة في تقبل (النص المفتوح) حينا ويفتقر إلى نظرة متفحصة تعطي للقصة ما للقصة وللشعر ما للشعر حينا آخر، وأن ما تعانيه القصة القصيرة جدا في هذا الجانب لا يعود إلى جوهرها بقدر ما يعود إلى المحاولات القصصية التي مازالت تئن تحت وطأة الاستسهال والتلقائية لدى الذين ليس لديهم أي رصيد معرفي كاف بالنوع الأدبي. فالقاص المدرك تماما لتقاطع فضاءات القصة القصيرة جدا مع فضاءات قصيدة النثر يتجاوز الآن تبرير وجودها وإقناع المتلقي بثبوت راهنيتها، فضلا عن الفرق بينهما على مستوى التعاطي النقدي، فقصيدة النثر تطورت وأخذت شكلا أدبيا مستقرا ومنتظما كثيرا، ويمكن محاولتها فحسب من كاتب مشبع تماما بفهم هذا الاستقرار والرسوخ وان القصة القصيرة جدا مازالت قلقة تمارس وجودها بشكل متذبذب وهذه أحدى الصعوبات التي تواجهالناقد وهو يحاول الاقتراب من معاييرها وخصائصها الفنية، إلا إن قدرتها التي تتلاءم مع الراهن ووعيه هي التي تشعره بضرورة متابعتها والوقوف معها وهي صغيرة السن قياسا إلى ما يماثلها من أنواع أدبية والذب عنها مثلما ذب المدافعون عن قصيدة النثر وسهولة كتابتها كما يظن بعض كتابها.كما أن ما يزيد العلاقة اشتباكا بين القصة والقصيدة هو استمرار اللعب اللغوي بوصفه عنصرا مهما في كتابة القصة القصيرة جدا، بفتنة اللغة المجازية التي تجمع بين شاعرية القص والقيمة الجمالية إلى الحد الذي سماها بعضهم (الاقصودة) لما لها من تماس يكاد يقترب من المطابقة مع قصيدة الومضة.  إن بلاغة التوتر التي تقتضيها هندسة الحيز المحسوب -إذا جاز التعبير- تشدها أكثر نحو قصيدة النثر فالتكثيف والايماض والإيقاع والمفارقة مسارات تتكئ عليها كتابة القصيرة جدا عموما، سواء انتمت إلى الأنواع النثرية أو الأنواع الشعرية، ولكن تبقى ((القصة هي القصة، والشعر هو الشعر، وكلاهما يختلف عن الآخر في طرائقه وعندما تختلط تلك الطرائق فإننا سوف نحصل على شيء مختلف عن كليهما ,أنهما ينبعان من مصادر طبيعية واحدة ولكن القصة تستخدم المادة بطريقتها الخاصة وشكلها حسب أغراضها وأهم طرائق التفريق بينهما هو البناء التركيبي لكليهما فـ((لا مجال للمقارنة بين الشاعرية في قصيدة النثر وبينها في السرد، فما يميز السرد Narrative هو السردية وهو مقدار ما يجعل السرد سردا، أي المكونات السردية التي تجعل من القص سردا وما يميز الشعر وبالتحديد في قصيدة النثر هو الشاعرية، ومهما آمنا بتداخل الأنواع وتناصاتها لابد من حد أدنى من الحدود الفارقة والفاصلة)) ولو اعتمدنا بشكل افتراضي على تعريف قصيدة النثر بأنها أنموذج شعري له تشكيله وصوره، ولغته، وإيقاعاته الداخلية،وأجرينا تعديلا على هذا التعريف بحذف مفردة (الداخلية) التي تخص الإيقاع، وتحويل مفردة (الشعري) إلى (قصصي) فما الذي سيتغير؟ هل سينطبق هذا التعريف على القصة القصيرة جدا؟ قطعا لا، فالمهيمن في السرد هو (الحكائية) ويختلف عن المهيمن في الشعر (الإيقاع)، ومادام المهيمن السردي لم يحضر في أي نص، فإنه لن ينتمي إلى نوع قصصي ما. وعليه لا يمكن أن نعد كل نص يمتلك خاصية الإيجاز والتكثيف قصة قصيرة جدا، وكذلك لا يمكن أن نعد كل نص يمتلك إيقاعا داخليا قصيدة نثر أو ومضة، فما يحدد هوية النص وانتمائه إلى نوع أدبي بعينه اشتراطات فنية متعددة، فعندما تتوسل 
قنيات التكثيف والإيجاز في أي نص بلغة رصينة وحيوية تقف العناصر الأساسية للقص (شخصية، حدث، زمان، مكان) الفارق الأساس في كشف هويته، إذ بدونها لن يكون سوى شعرا.