جون بارث: صاموئيل بيكيت ونهايات الصمت

ثقافة 2019/08/26
...

نصير فليح
 
عندما يصل شكل أدبي معين الى تخوم الاختزال القصوى، مقتربا من حافة الصمت او الفراغ، ما الذي يمكن ان يكون متاحا بعد ذلك؟ هنا يبدو أن المنطق الجدلي يتجسد في الفن كما في المجالات الاخرى، بصيغة تعيد تمثل الماضي، ولكن بطرق جديدة، وسياق جديد، لتكون بدورها موضوعا لنفي وتخطٍّ لاحق.
ان اللغة، مهما كانت ماهرة وبارعة، لا يمكن ان تصل الى مطابقة شمولية العالم وكلانيته. الكلمات لن تكون الأشياء أبدا. ولكنها في سعيها الدائب الذي لا يهدأ، تبقى مسكونة بالاقتراب اقصى ما يمكن من الافق المتاح، والسعي الى الملامسة المستحيلة لعالم الاشياء، ولعل لحظة الملامسة تلك هي نفسها لحظة الصمت وانهيار اللغة، والحاجة الى انفتاحها على افق جديد في شكل تعبيري
 جديد.
وشيء موازٍ لهذا نراه في عالم النصوص البصرية لا الكتابية فقط، والصور النهائية التي يمكن تخيلها لمجمل العالم أو الكون وموجوداته، اذا ما اتيحث ذات يوم، أو للتعبير عما هو كلي ونهائي، ستقترب من حالة «الرمادية»، «البياض»، «السواد»، أي اللا لون الذي تشترك فيه الاشياء المتناهية في الكبر كما الأشياء المتناهية في الصغر. فهناك على العتبة النهائية للرؤية الممكنة، يكمن الفراغ، الكثرة اللانهائية التي تتداخل كل الوانها وتبهت في نسيج الصورة العامة، لتنال بالتالي لون اللاشيء او العدم. ونعرف القول الشهير للنفري: «كلما اتسعت الرؤية ضاقت
 العبارة».
 
بارث و بيكيت
تأملات من هذا النوع يمكن ان تقودنا الى بعض ملامح الادب، الفلسفة، والفن، ومنها الرؤى الطليعية للروائي والناقد الأدبي جون بارث John Barth . يرى بارث أن صاموئيل بيكيت يمثل رمزا لنهاية مرحلة الحدثة، إذ يتعذر اختزال اعمال بيكيت الى اختزال اضافي على اساس محتواها. وكما يقول بارث: “لقد اصبح بيكيت صامتا فعليا”. وبيكيت في اعماله الأخيرة قدم مسرحية صامتة عنوانها (Act Without Words) ( = عمل من دون كلمات) ومسرحية اخرى من دون شخصيات ولا احداث (Breath) تستمر فقط لخمسة وعشرين ثانية. وقد شخص جيل دلوز نفسه ادب صاموئيل بيكيت باعتبار ان “مجمل منجز بيكيت يتسم بتغلغل تعاقبات
 الاستنفاد”.
فالمسرح يتلاشى امام عيني الشخص في نقاط كهذه، عندما يسعى المؤلف الى نوع من “نقاء الرؤية”، وهو ما يمكن أن نجد له معادلا بصريا في بعض الأعمال والاتجاهات الفنية،
 كما في اللوحات المثيرة للجدل للفنان كازمير مالفيتش مثل (أبيض على أبيض) أو White Square on White Background ( = مربع ابيض على خلفية بيضاء) (1918). وهو العمل الفني الذي اطلق ما عرف بفن
 الـ “مونوكروم” monochrome. 
 
من الاستنفاد إلى الوفرة
ما يعقب تخوما قصوى لهذا النوع من الاختزال الاستنفادي، كما يبدو من منطق التاريخ والفن، هو انفتاح على أفق و «وفرة» من نوع جديد. وفي ما تقدم يمكن ان نلاحظ جذور ظهور الادب والفن ما بعد الحداثي وانبثاقها من ادب وفن
 الحداثة.
 فما بعد الحداثة لم تعد الى احياء الوفرة والتنوع الماضيين كما هما، بل افضت الى معايير وأشكال فنية جديدة. لقد كتب جون بارث آرائه تلك عن ادب صاموئيل بيكيت عام 1967، أي بوقت غير قصير قبل اي مناقشة واسعة لشيء من قبيل «أدب ما بعد الحداثة»، رغم ان ارهاصات ما بعد الحداثة كانت محسوسة بشكل أكبر في مجال الفن المعماري. وما بعد «أدب الاستنفاد» او «أدب الامكانية المستفدة»، كما يسميه بارث، تنامت نزعات العودة الى العناصر الادبية التقليدية، ولكن برؤى وصيغ 
جديدة.
 
تخطي الاستنفاد
ويشخص بارث ان لويس بورخس كاتب من جيل بيكيت نجح في تخطي النهايات المغلقة. فكل من بيكيت وبورخس كانا يعملان في «عصر التخوم» او «الحلول النهائية»، ولكن بينما ذهب بيكيت الى الصمت، فان بورخس تمكن من الاشتغال على الانهمامات التي تثيرها هذه النزعات. ويرى بارث في بطل قصة بورخس (بيير مينراد، مؤلف كيخوته)، تعبيرا عن كل هذا. إذ يكتب بطل القصة، بيير مينراد، رواية سيرفانتس الشهيرة (دون كيخوته) كما هي كلمة بكلمة وعلامة بعلامة وفراغا بفراغ. ولكن النتيجة لن تكون ابدا (دون كيخوته) سرفانتس رغم التطابق التام. وهكذا بدل ان يكتب بورخس شيئا عن صعوبة كتابة عمل «أصيل» في عصره، فإنه يقدم لنا صورة بطل قصته الذي يكتشف صعوبة، وربما لا ضرورة، كتابة «اعمال اصيلة» في عصر كعصرنا. وفي كل هذا نجد إرهاصات ما بعد الحداثة في أدب لويس بورخس، الذي يعتبر من طليعة روادها في مجال
 الكتابة الأدبية.
 
تأملات إضافية
اذا تأملنا كتابة بورخس او قصته هذه فانها تنفتح على تأويلات عديدة بالاضافة الى ما يشير اليه بارث، اذا ما تمعنا في ذلك قليلا. مثل استحالة «استعادة» أو تمثل الماضي، او شيء منه، حتى لو كان ما يقدم مطابقا حرفيا (ذلك انه يولد الان في زمن جديد وعلاقات وسياقات جديدة)، وهو ما يتصل بموضوع فكري وفلسفي عميق أي التساؤل عن الهوية والماهية. وشيء من هذا نجده في اعمال اخرى لبورخس، كما في قصته عن ابن رشد ومحاولته المستحيلة لتمثل ارسطو وعصره. وبالنسبة لمجال النظرية الأدبية، فان جيرار جينيت يستشهد ايضا بعمل بورخس المذكور (بيير مينراد) لتوضيح نظريته عن النص الادبي باعتباره «حدثا»، وان ما يكتب عنه أو بالصلة معه، قبله او معه او بعده، جزء من عناصر «الحدث الادبي». فالعمل الادبي او النص في طبيعته الجوهرية، ابعد ما يكون عن كونه عملاً مستقلا منغلقا على ذاته، بين دفتي غلافه، او بين
بدايته ونهايته.