أخطر انواع واشكال التبذير هو التبذير بالعقول والتفريط بها من أجل كسب مؤقت على حساب خسارة بلد .
وأحسب أن أقسى الخسارات هي تلك التي يخسر الوطن فيها مبدعيه لكي يتسيده الرصاص .
لا شيء أقسى من عجز اللغة عن تحقيق ذاتها ؛ وكي تكون لغة وتملأ معنى حروف لفظها ، لابد لها من أن تتصرف كأنها انسان بنبض ودمع ، بابتسامة وبوح ، بثورة وانكسار . لكن ، ما اقسى انكسار اللغة وخيبتها ، وما اشد فضيحتها حين تعجز عن تحقيق ماهيتها .
رب قائل يقول وكيف لها أن تحقق ماهيتها وهي بين هاربة من الرصاص أو خائنة تحتمي به ! .
في البدء كان السيف والكلمة ، وهو صراع أزلي ، ومنذ الأزل كان صوت السلاح أعلى ، وبقي الكلام أعزل في مواجهة رعونة السلاح ؛ ذلك السلاح الذي حاول اسكات المتنبي حين لم يتمكن أي ( ضبة) من مواجهة كلماته ! .
ترى ، كم ضبة بانتظار كلماتنا ؟ وكيف لأي ( ضبة) ان يتمكن من اسكات صوت الرأي النابض ! ؛ استشهد المتنبي العظيم ، واقول استشهد ابو الطيب لأنه شهيد رأي ، وهو القائل :
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
نعم ، الرصاصة وسيلة اسكات مؤقت لكن الرأي والكلمة وسيلتا ردع لكل سلاح طائش :
فلربما طعن الفتى اقرانه
بالرأي قبل تطاعن الاقران
لكن ، كيف لمن لا يطاعنه قرينه ؛ فالغادر مخبوء خلف رعبه من أزيز الكلمة ، يئن ويرتجف رصاصاً ؛ والقتيل يقف صادحا بوجه خصم بلا عقل ولا لغة ولا رأي :
لولا العقول لكان أدنى ضيغمٍ
أدنى إلى شرفٍ من الأنسان
كان كامل شياع مثالا للهدوء والوعي والخلق النبيل ، مثقفا ضاجّا بالمحبة والسلام ، وصاحب رأي يبدو أنه ازعج غادريه ، وهو قبل ذلك وبعده ، سلاحه الكلمة ، ولكن الحرف أعزل امام جحافل الرصاص الأبكم . انها معادلة النطق والاسكات ، وليس للكلمة أن تموت ، فالهواء الذي يتنفسه الجميع هو كلمة ، ومثله الماء كلمة ، والحرب كلمة ، وبعض الكلام يخون ، فاللغة انسان بكل صفاته سلباً
وايجاباً .
رحل كامل شياع وبقي صادحا وذكراه نابضة ؛ بينما ماتت الرصاصة التي اغتالته .
هو كامل شياع الذي تقمص اسمه ، فاكتمل وشاع ، ثم خلد ، وانزوت الرصاصة التي حاولت اسكاته .
له المجد والخلود في قلوب محبيه وله صداه المستمر في اروقته التي يحب ، فلقد انتصر بموته على حياة قاتليه المحنطة بالفشل والخيبة والجهل المطبق . لروحه السلام في ذكراه ، ولصوته
الخلود .