تأسيسيات الستراتيجية الأميركية وتفكيكيات طهران
الثانية والثالثة
2019/08/28
+A
-A
جواد علي كسار
ببساطة شديدة يمكن إرجاع الموقف الأميركي من النووي الإيراني، إلى ستراتيجية من خطوتين؛ الأولى تمثلها الرؤية النظرية بوضع إيران في دائرة الاتهام دائماً، وإعطائها صبغة الدولة المارقة التي تُهدّد أمن المنطقة والعالم؛ والثانية ويمثلها الجانب التنفيذي، القائم أساساً بدفع الملف إلى أروقة منظمة الأمم المتحدة، خاصة مجلس الأمن، ومواجهة جهود إيران لإبقاء الملف خارج نطاق الأمم المتحدة، وبعيداً عن قرارات مجلس الأمن، مع سعيّ حثيث لحله تفاوضياً، لكن بمعزل عن بقية الملفات، رغم إقرار طهران بتشابك النووي مع غيره.
أما على صعيد القوى الفاعلة والمؤثرة، فقد كانت إيران ترغب بإقحام أوروبا الغربية بالموضوع، لتفكيك وحدة القرار الغربي، وتوزيعه بين أميركا وأوروبا، بما يعنيه ذلك من إيجاد هامش مناورة بين الطرفين، سعت إيران لتوسيع مساحته، لكن هذه المرّة من خلال إشراك روسيا والصين، وأحياناً تحريك جبهات ثانوية ساندة في المنطقة وخارجها، مثل تركيا والعراق والأرجنتين والبرازيل وغيرها.
وإذا ما انحشرت في الزاوية الحادّة، فقد كانت طهران تفضل التعامل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، على مجلس الأمن، وترتاح لمفاوضات جنيف وفيينا على واشنطن ونيويورك، كما سنتابع تفاصيل ذلك كله من خلال هذه الحلقة.
تأسيسيات أميركا
حتى لو لم تسعَ إيران إلى النووي لدفعتها أميركا دفعاً إلى ذلك، لتبرير سياستها القائمة على القطبية الأحادية، وأن تكون القوّة العسكرية الأولى في العالم التي لها الكلمة الفصل، والسيّد الذي «يؤدّب» من يهدّد أمن العالم، وحين يكون الخطر النووي هو من يهدّد السلام العالمي، تضحى الحاجة إلى القوّة العسكرية الأميركية أشدّ وأكبر؛ في ضمن هذه الأوضاع بادرت: «أميركا إلى إنتاج الملف النووي الإيراني» (آقاى سفير، ص 152).
بهذه الرؤية يُمثل ملف إيران النووي حاجة للاستعمال السياسي لابدّ منها بالنسبة لأميركا، ومنافع وجوده وتسخينه وإبقائه مفتوحاً سياسياً، أكبر من فوائد غلقه فنياً وإنهائه عملياً. إيران التي تتبنّى هذا التحليل في خطّ الوزير ظريف ومدرسته ومؤسّس هذه المدرسة الراحل هاشمي رفسنجاني (ت: 2017م) تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، حين تكشف أن أميركا كانت مصمّمة بتخطيط ووعيّ مسبَقين، أن تصنع من إيران دولةً ونظاماً، قوّة تهدّد أمن العالم وسلامته، بحيث يقترن ذكر إيران دائماً، بعنوان أنها الخطر ومصدر الإرهاب الذي يهدّد أمن المنطقة وسلام العالم؛ بالنووي وبغيره، وقد حقّقت واشنطن نجاحاً كبيراً على هذا الصعيد.
يُخبرنا ظريف أن هذه السياسة لم تكن نهجاً طارئاً لأميركا، قدر ما تعبّر عن ستراتيجية دائمة مع إيران وغيرها، ممن يتحدّى الأنموذج الرأسمالي بنسخته الأميركية، ويهدّد بالتمرّد على مركزيته في السياسة والاقتصاد والثقافة. يقول: «إذا رجعنا إلى الماضي، نجد أن حروب أميركا جميعاً في القرن التاسع عشر، وانخراطها في الحرب العالمية الأولى، ثمّ دخولها الحرب العالمية الثانية، ومن بعدها حرب فيتنام؛ كلها اقترنت بمقدّمات اجترحتها أميركا، كانت تقول فيها، أن الطرف الآخر الذي أحاربهُ، هو خطر يهدّد العالم!»، يُضيف: «من يقرأ التأريخ وله إلمام بالسياسة الدولية، سيدرك هذا المعنى، وما حصل في العراق ويوغسلافيا السابقة، هي نماذج معروفة للجميع» (المصدر السابق، ص 242). هكذا يخلص ظريف معه أنصار هذا التحليل، أن الخطوة النظرية الأولى التي تبدأ بها أميركا، قبل مواجهة خصمها إيرانياً كان أو غير إيراني، أنها تبادر إلى شيطنته، وأن تصنع منه أمام العالم وفي أعينه، أنه الخطر الذي يهدّد أمن العالم وسلامته، كما فعلت مع إيران قبل النووي ومعه!
صناعة العدو!
يدخل ظريف في هذه النقطة مباشرة، وهو يقول: «كانت أميركا تريد منذُ ثلاثين عاماً، أن تحوّل إيران إلى عنصر تهديد للأمن العالمي، والأسلوب الأفضل لذلك هو صدور هذه القرارات» وكان يقصد بها القرارات الستة التي صدرت ضدّ إيران في الملف النووي، إبّان إدارة الرئيس احمدي نجاد (في المنصب: 2005ـ 2013م). وعلى نحوٍ أكثر شمولاً وجامعية يكشف ظريف هذا البُعد في الستراتيجية الأميركية مع إيران الثورة بالمطلق، نووية كانت أو غير نووية، بقوله: «كان هدف أميركا منذ ابتداء الثورة الإسلامية، أن تبدّل إيران إلى تهديد أمني عالمي، وأساساً هدف السلطة، هو التعميم وأن تذهب للمنطق الذي يُفيد، بأن أعدائي هُم أعداء الجميع». يضيف: «لذا أعتقد أن أميركا لا تهدف إلى محض فرض العقوبات أو الضغط على إيران وحسب، بل تريد أن تُبدّل إيران إلى عنصر تهديد أمني للعالم، وقد تحرّكت صوب تحقيق هذا الهدف تدريجياً ومرحلةً بمرحلة، والمشكلة [في الداخل الإيراني] هي عدم إدراك هذه الحقيقة» (المصدر السابق، ص 231).
إلى مجلس الأمن!
كانت أميركا تسعى منذ البداية لدفع قضايا إيران جميعاً؛ النووي وغيره على مجلس الأمن، لأنها قوية هناك وصاحبة قرار وتأثيرها مضمون، وكذلك لوجود الضمانة التنفيذية لقرارات مجلس الأمن، بحيث تستطيع استصدار ما تشاء من العقوبات ضدّ إيران، إذا ما تخلفت عن الالتزام بقرارات مجلس الأمن، ومن ثمّ تستطيع أن تخنق هناك من تريد، بالقرارات والعقوبات المُلزِمة، كما فعلت مع العراق ويوغسلافيا السابقة؛ وهما البلدان اللذان كثيراً ما يستشهد بهما رفسنجاني وظريف وأنصار هذه المدرسة، في مقابل من استخفّ بهذه القرارات والعقوبات مثل الرئيس احمدي نجاد (2005ـ 2013م) ومن ورائه اليمين المتطرّف، ولا تزال لغة الاستخفاف سارية، عند أنصار هذا التيار!
لذلك يذكر ظريف أنه عبثاً حاول إقناع القيادة في طهران، أن الخطر قادم، بعد أن تأسّست مقدّماته السياسية؛ هذه المقدّمات التي راحت توحي للجميع بأن إيران هي من يُزعزع استقرار المنطقة، ويهدّد السلام العالمي، خاصة مع الملف النووي، ومن ثمّ فقد أصبح الطريق مفتوحاً لمجلس الأمن كي يُصدر قراراته ضدّ إيران. يذكر ظريف: «حين كنتُ عاكفاً منذ أواخر سنة 2002م على متابعة موضوعات أُخر، مثل التفاوض بشأن العراق، وفي تنقل دائمٍ بين طهران ونيويورك، كنتُ أذكر على الدوام أن المسألة النووية أصبحت تحت الصيرورة وأنها باتت جاهزة». يضيف: «حينها كانت منظمة الطاقة الذرية تقدّم تقاريرها إلى الحكومة؛ أن كلّ شيء على ما يرام وملف النووي تحت السيطرة، وقد بلغ الأمر أن د. حسن روحاني نفسه [حين كان أمين عام المجلس الأعلى للأمن الوطني] ذكر مرّات؛ بأن الجميع يقول أن كلّ شيء تحت السيطرة، في حين يذكر ظريف في كلّ مرّة يقدم بها إلى طهران [من نيويورك] أن موضوع النووي في حال الصيرورة، وأصبح جدياً». يختم ظريف بالقول: «طبيعي، لم تكن لي مسؤولية حيال الملف، بل كنتُ أُنبّه وحسب» (آقاى سفير، ص 209).
التدويل!
نعيد التذكير أن الستراتيجية الأميركية إزاء النووي الإيراني تتكوّن من مرحلتين؛ نظرية والأساس فيها إقناع مختلف الأطراف، أن طهران هي تهديد فعلي لأمن المنطقة والسلام العالمي، وعملية تنفيذية تستهدف أساساً تدويل النووي الإيراني ونقله إلى مجلس الأمن، ومحاصرة إيران داخل أروقة المنظمة الدولية.
مع أن أميركا تأخرّت رسمياً حتى سنة 2004م، لكي تقدّم مبرّراتها عن دواعي نقل ملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن، وأن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لا تصلح مكاناً لمعالجة الملف، وذلك عبر رسالة وزعتها بهذا المضمون بين أعضاء مجلس الأمن؛ إلا أن هذه الخطوة كانت طموحاً ستراتيجياً لأميركا منذ البدء؛ بتعبير ظريف: «كانت سياسة أميركا تقوم منذ بداية الثورة، على جرّ إيران إلى عقوبات مجلس الأمن. سعت أميركا إلى ذلك في قضية الرهائن [رهائن السفارة الأميركية بطهران] كما في [حرب] إيران والعراق، بيد أنها لم توفق» (المصدر السابق، ص 83).
أحد أسباب هذا الإصرار الأميركي يعود في هذه المسألة، إلى أن الوكالة الدولية لا تستطيع من الوجهة القانونية إيقاف البرنامج النووي لإيران، في حين يملك مجلس الأمن مثل هذه الصلاحية. يوضّح ظريف هذا البُعد بقوله: «لم يكن سعينا لعدم ذهاب ملف إيران إلى مجلس الأمن، عائداً إلى قلقنا من العقوبات وحسب، لكن أيضاً لأننا لم نُرد لأحد أن يُعلن بأن برنامجنا النووي، غير قانوني» (المصدر السابق، ص 83ـ 84).
ينبغي أن نستحضر مجدّداً، أن جرّ إيران إلى مجلس الأمن لا يقتصر كستراتيجية أميركية على النووي وحده، بل يشمل قضايا إيران الإشكالية جميعاً. يقول ظريف: «بعد الثورة الإسلامية في إيران سعت أميركا ثلاث مرّات في الأقلّ، لجرّ إيران إلى مجلس الأمن وفرض العقوبات الدولية عليها؛ مرّة في قضية الرهائن [السفارة الأميركية بطهران] وأخرى في قضية عدم قبول إيران للقرار (598) ومرّة ثالثة في قضية النووي» (آقاى سفير، ص 231). وفي مسألة النووي تحديداً تركز جهد أميركا أكثر باتجاه دفع إيران إلى مجلس الأمن منذ عام 2004م، وحتى قبل اتفاقية باريس بين إيران والأوروبيين، حيث كان هدف أميركا بحسب الوثائق الموجودة، دفع ملف إيران إلى مجلس الأمن، إيماناً من واشنطن أن الوكالة العالمية للطاقة الذرية ليست المكان المناسب لهذا الملف، على حدّ هذه المنهجية في التحليل.
في الطريق إلى ذلك تعاضد الجانبان السياسي والقانوني في الستراتيجية الأميركية، إذ عمدت واشنطن إلى تركيب البحث السياسي على محملٍ قانوني، وقد كان ينبغي لها أن تفعل ذلك، وهي تدفع ملف إيران إلى مجلس الأمن، تماماً كما حصل في إصدار القرار (1929) حيث أفادوا من مضامين حقوقية قانونية، لكي تتموضع رؤيتهم السياسية! (المصدر السابق، ص 234).
تفكيك الستراتيجية
حتى أيلول 2003م كانت المسؤولية الكاملة لإدارة الدبلوماسية النووية في الوكالة الدولية، على عاتق منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، فكان ممثل إيران في الوكالة الدولية منصوباً من قِبل المنظمة الإيرانية، ويقدّم تقاريره إلى رئيس المنظمة بطهران، من دون أن تكون هناك أي صلة تنظيمية لوزارة الخارجية. لكن ما حصل على عهد د. علي أكبر صالحي آخر ممثل للمنظمة الإيرانية في الوكالة الدولية، حين كان ظريف المعاون الدولي لوزارة الخارجية، هو ضرب من التنسيق بين الجانبين، يعزوه محمد جواد ظريف إلى المعرفة القديمة بينهما والصداقة التي تجمعهما، فقد كانت الخارجية تعقد ندوات لسفرائها تدعو إليها د. صالحي، ومع أن السيد صالحي كان يستجيب لهذه الندوات، بيدَ أن ذلك لم يغيّر من المسار قط؛ إذ لم يقدّم تقريراً لوزارة الخارجية، بل كانت تقاريره تذهب إلى منظمة الطاقة، ويتلقى الأوامر منها.
من باب الطرافة المؤلمة يذكر ظريف أنه اطلع من خلال الإعلام فقط، على موضوع نطنز وآراك، الذي أشعل ملف النووي الإيراني وأعطاه مداه العالمي بعد مؤتمر مجاهدي خلق. فقد كان في أميركا عندما تابع ذلك من خلال مراسل (C.N.N) وقد اتصل به مراسل الشبكة، وسأله: تُفيد صور الأقمار الصناعية بأن لديكم تأسيسات نووية سرية قرب أصفهان؟! يذكر ظريف أنه لم يكن يعرف شيئاً عن هذا المشروع، بل يعرف بوجود تأسيسات (يو.سي. أف) في أصفهان فقط، فما كان منه إلا أن أخبر مراسل الـ(C.N.N) بوجود هذه التأسيسات، وأن الوكالة الدولية للطاقة الذرية على علم بها. هنا طلب منه مراسل الشبكة الأميركية أن يراجع معلوماته ويتأكد منها، ويتواصل مع عاصمة بلاده طهران، وحين اتصل ظريف ببلاده، كان الموضوع قد راح يكبر تدريجياً، ويكتسب أبعادا سياسية وإعلامية واسعة. يعقب ظريف على الواقعة، بقوله: «هذه الواقعة هي جزء من وقائع كثيرة، كنا نعرف خبرها من أطراف خارجية!» (المصدر السابق، ص 250).
المنعطف!
على هذا النحو لم يكن بوسع الخارجية الإيرانية أن تفعل شيئاً لتفكيك الستراتيجية الأميركية، ما دامت منظمة الطاقة الإيرانية قد استحوذت على الملف بالكامل. الحقيقة، ان كلّ شيء كان قد تحوّل بعد إصدار الوكالة الدولية للطاقة، أول قراراتها ضدّ إيران في أيلول 2003م، هذا القرار الذي جاء حادّاً وقاسياً، وهو يسجّل خرق إيران لالتزاماتها.
أحدثت هذه الواقعة هزّة في طهران، ولاسيما أنها كانت تُنبئ بخطوات لاحقة أشدّ وأكثر قسوة، قد تؤدّي إلى دفع ملف إيران إلى مجلس الأمن، كما حصل ذلك فعلاً بعد ذلك بسنتين، حين وصل احمدي نجاد إلى الرئاسة سنة 2005م، وعلق العمل في تشرين الأول 2005م بالبروتوكول الإضافي، وتراجع عن هذا المسار بالكامل، لصالح سياسة استعدائية تصعيدية جوفاء، استخفّ من خلالها بقرارات مجلس الأمن، التي راحت تصدر تباعاً ضدّ إيران!
كما أدّى قرار الوكالة الدولية إلى مراجعات واسعة لأبعاد الملف بين مختلف الجهات المسؤولة؛ بالأخص منظمة الطاقة الذرية ووزارة الخارجية والمجلس الأعلى للأمن الوطني؛ وهي أبرز الجهات المتنافسة على إدارة الملف النووي. ورغم كثرة التفاصيل التي تناولت هذا الجانب، من خلال مقالات ومحاورات وبحوث وندوات وكتب، إلا أن ظريف يعطينا تصوّراً مركزاً بين مسارين، يرسم لنا الاختلاف بينهما، على النحو التالي: «كان الزملاء في منظمة الطاقة يعيشون هذه الحالة، غير المتطابقة مع حقائق السياسة في العالم. حقاً، لقد كان هؤلاء ينظرون إلى الموضوع من زاوية تقنية، ويظنون أنه لن يتحوّل إلى أزمة تعجّ بالضجيج، لكن من دون أن ينتبهوا إلى الجوّ السياسي في العالم، وإلى ماذا تسعى أميركا، والقلق الذي راح يتصاعد من تنامي قوّة إيران في المنطقة بعد سقوط نظام صدام، وحاجة أميركا إلى ذريعة لضبط هذه القوّة والسيطرة عليها». يضيف: «مع الأسف، أدرك مسؤولو البلد ذلك، بعد أن خرج الموضوع من البُعد التقني، إلى ما هو أبعد من ذلك؛ وبعد أن أصدرت الوكالة الدولية، مع الأسف قرارها الشديد الحادّ جداً في شهر أيلول 2003م» (المصدر السابق، ص 251).
على أثر ذلك كله وبمقتضى هذه المراجعات، جاء قرار طهران الحاسم بتحويل: «مسؤولية الملف إلى وزارة الخارجية، وبعد ذلك وبإصرار الخارجية نفسها، إناطة المسؤولية إلى مجلس الأمن الوطني» لكي يكتسب الملف بُعده السياسي مع هذا التحوّل في الجانب التنفيذي، ويخرج من طابعه التقني المحض حين كان تحت إدارة منظمة الطاقة الذرية.
الفريق التفاوضي الجديد
من باب التفاصيل النافعة التي قادت إلى تسلم ظريف وفريقه التفاوضي مسؤولية النووي، يذكر: «في واحدة من اجتماعات مجلس الأمن الوطني، اقترح أحد الكُبراء بما يكنّه من محبة ولطف لشخصي ولبعض الزملاء، أن يتولى هذا الملف الذي يعدّ موضوعاً وطنياً مهماً، أمهر دبلوماسيينا. لقد كان صاحب الاقتراح الذي ذكرني فيه هو د. ولايتي، ما أدّى إلى أن يُصار في تلك الجلسة نفسها التصويت عليّ فوراً، ومعي في مسؤولية إدارة الملف د. البرزي، والسيد سايروس ناصري، معنا السيد حسين موسويان الذي كان يشغل يومها منصب رئيس قسم شؤون السياسة الخارجية في مجلس الأمن الوطني، ويمارس دوره التفاوضي كمعاون للدكتور حسن روحاني [أمين مجلس الأمن الوطني] لكن عندما التحقتُ بالعمل، أصرّ عليّ السيد موسويان أن أتصدّى للتفاوض مكانه، وهذا ما كان» (المصدر، ص 251ـ 252).
بهذا المنعطف أصبح مصير النووي الإيراني معلقاً بجهود هذا الفريق الرباعي؛ كبير المفاوضين ظريف ورئيس الفريق، معه البرزي وناصري وموسوي، لمدة سنتين قبل أن يُصار إلى الإطاحة بالفريق كاملاً، واتهام بعض أعضائه بالتجسّس، كما حصل مع سايروس ناصري وحسين حسينيان!
هدفان!
لترتيب المشهد يحسن بنا التذكير مجدّداً ببعض التواريخ؛ ففي 14 آب 2002م كشف مؤتمر مجاهدي خلق عن أن إيران قطعت أشواطاً في برنامجها النووي السري في نطنز وآراك، وفي أيلول 2003م صدر بيان الإدانة عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بلغة شديدة بل حادّة جداً، جعلت طهران تصحو من سكرتها وتواجه الواقع الصعب، فكان اجتماع قصر سعد آباد الشهير، وما سُمي بعدئذ بإعلان طهران بتأريخ 21 تشرين الأول 2003م الذي قامت طهران بموجبه بالإعلان عن إيقاف نشاطها الذري تطوعياً، ما جعلها تنال يومها شهادة نادرة من الـ(C.I.A) قلما تكرّرت بعد ذلك، حين شهدت وكالة المخابرات الأميركية لإيران، أنها جمّدت نشاطها النووي بالكامل.
لكن بتأريخ 10 تشرين الثاني 2003م اعترضت الوكالة الدولية للطاقة الذرية على عدم وفاء إيران بالتزامها، وهو ما مهّد فيما يبدو إلى توقيع طهران للبروتوكول الإضافي مع الوكالة يوم 18 كانون الأول 2003م، بجهود من ظريف وفريقه التفاوضي، ودعم كامل من مجلس الأمن الوطني خاصة رئيسه حسن روحاني يومذاك، مع غطاء شامل من رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني، الذي كان لا يزال في ذروة تأثيره في ستراتيجيات النظام، ومنها سياسته في الملف النووي، عبر حليفين قريبين له، هما محمد خاتمي في الرئاسة، وحسن روحاني في مجلس الأمن الوطني، مضافاً إلى خطّه في الحكومة والبرلمان، ونفوذه في مجلس خبراء الدستور، وفي الجيش والحرس الثوري وبقية مؤسّسات الدولة والنظام؛ قبل الصدمة التي دفعت رفسنجاني لخسارة كبيرة أمام احمدي نجاد، بانحياز من خامنئي لصالح الثاني ضدّ الأول، حيث كانت في طليعة خطوات نجاد قلب ستراتيجية النووي رأساً على عقب، في الرؤية والتنفيذ والطاقم الإجرائي، ومنها مبادرته إلى تعطيل العمل بالبروتوكول الإضافي بتاريخ تشرين الأول عام 2005م. بعد هذه المصفوفة من التواريخ التي تنظم الإحداثيات الزمانية للملف في أذهاننا، لنعد إلى ظريف كي يرسم لنا ستراتيجية التفاوض وأهدافها المتوخاة، وهو يقول: «في كلّ عملية تفاوضية كان النظام يحدّد الأطر، وذلك ضمن الإطار العام الذي كان واضحاً، وهو يتمثل بحفظ مكتسباتنا النووية. طبيعي كان هناك هدف آخر نسعى إليه، هو أن لا يذهب الملف إلى مجلس الأمن. إذا ما عدتُ إلى إطار طهران لسنة 2003م المعروف باتفاقية سعد آباد، فقد كان من الواضح تركيزنا على حقوقنا للحفاظ على مكاسبنا». يضيف بعد هذا الإيضاح العام: «لكن من جهة أخرى، لم نكن نريد أن نُعطي الذريعة لأميركا اعتباطاً وبالمجان، بحيث ينجرّ الملف إلى مجلس الأمن. لذلك كان خروج الملف من الوكالة الدولية ودخوله مجلس الأمن، بمعناه غلبة الأبعاد السياسية عليه. على أننا كنا نؤمن بأن الملف ما كان ينبغي أن يُعرض بالوكالة الدولية أيضاً على نحوٍ خاص، بل كان ينبغي التعامل مع إيران كما مع بقية البلدان» (المصدر السابق، ص 254).
في ضوء ذلك كله بنى ظريف معادلة التفاوض على ستراتيجية من مرحلتين: «في المرحلة الأولى، ألا يُرحّل الملف إلى مجلس الأمن؛ وفي المرحلة الثانية أن لا يخرج عن دائرة الوكالة الدولية ومجلس المحافظين». وهذا ما حصل على حدّ كلام ظريف، في الأقلّ إلى المدّة التي كان مسؤولاً عن الملف، قبل أن يُطاح به وسط تقلبات عنيفة في السياسة الداخلية الإيرانية على مدار ثماني سنوات، كما سنتابع ذلك في الحلقة القادمة بإذن الله.