لم أره في حياتي إلا مرّة واحدة على نحوٍ عابر، في مدينة كربلاء سبعينيات القرن المنصرم. وقد ذُهلتُ فعلاً حين تأكد لي أنه رجل «مُعقّل» لا يرتدي العمامة أو زي طلبة العلوم الدينية؛ هو الشيخ أسد حيدر.
ارتبط اسم أسد حيدر ببحث تأريخي فخّم وريادي، هو «الإمام الصادق والمذاهب الأربعة» أظهر في أجزائه الستة، براعة فائقة في المنهج والأسلوب والمحتوى، وأسّس من خلاله العمل الموسوعي عن الإمام الصادق عليه السلام، إذ سبق باقر شريف القرشي (ت: 2012م) وغيره ممن خاض مجال التأليف الموسوعي عن الإمام الصادق، من بعده.
الكتاب الآخر الذي ارتبط بأسد حيدر (1329ـ 1405هـ) واقترن باسمه، هو: «مع الحسين في نهضته». ورغم أن هذا الكتاب لا يتجاوز الثلاثمئة صفحة إلا قليلاً، إلا أنه يعدل موسوعة كاملة، بمنهجه ومحتواه وغزارة معلوماته ودقة متابعاته وكثافة تحليلاته، وأسلوبه الجذّاب الموحي في التعبير والبيان، ولأيّ إنسان الحقّ أن يعود إلى الكتاب مباشرة ليتأكد من هذه الخصائص فيه.
لقد صحبتُ هذا الكتاب وصحبني مدّة أكثر من أربعين عاماً، ولا زلتُ أعود إليه خاصة بالمناسبات التي ترتبط بالإمام الحسين عليه السلام. هو يُزودنا بمعلومات تأريخية عن مقدّمات واقعة كربلاء، من مصادر التاريخ الأساسية. كما يضع بين أيدينا الإحداثيات الزمانية والمكانية للحركة الحسينية، من المدينة إلى مكة إلى الكوفة فكربلاء، معزّزة بكلّ أو جُلّ ما يرتبط بهذه الواقعة من مواقف وشخصيات ونصوص، بوصفٍ يجمع بين الخبر التأريخي، وأدائه بأسلوب جذّاب مسترسل، تدخل في هندسته البيانية ذخيرة أسد حيدر الأدبية والشعرية خاصة، في تلوين المشاهد كلها ومنحها الحياة، حتى كأنك تعيش الواقعة وتلاحقها بمشاعرك وأنفاسك.
مما يعجبني في هذا الكتاب الذي يعدل موسوعةً، تلك الوقفات الشاخصة في تحليل الازدواج الذي أصاب مجتمع المسلمين يومذاك، ليس في الكوفة وحدها على ما تشيع بعض الكتابات بجهلٍ أو بقصد، بل في المدينة ومكة أساساً، وفي الشام بداهةً، وأيضاً في العراق؛ أقصد البصرة والكوفة.
من الوقائع تلك على مستوى النخبة والخاصة وسُراة القوم، مقالة شبث بن ربعي، حيث قيل أنه تثاقل عن الخروج لحرب الحسين، قبل أن يذعن ويمتثل لأمر ابن زياد، وهو يقول مؤنباً نفسه ومن معه: «لا يعطي الله أهل هذا المصر خيراً أبداً، ولا يسدّدهم لرشده، ألا تعجبون أنّا قاتلنا مع علي بن أبي طالب ومع ابنه من بعده، آل أبي سفيان خمس سنين، ثمّ عدونا على ابنه وهو خيرُ أهل الأرض، نُقاتله مع آل معاوية وابن سمية الزانية، ضلال ويا لك من ضلال!».
ومن ذلك حين قُتل مسلم بن عوسجة، فتنادى بعضهم من جيش ابن سعد فرحاً، فقال شبث بن ربعي، موبخاً: «ثكلتكم أمهاتكم، إنما تقتلون أنفسكم بأيديكم، وتذلون أنفسكم لغيركم، تفرحون أن يُقتل مسلم بن عوسجة؟!».
لكن في المقابل يأخذنا إلى مواقف كبيرة للقوم أنفسهم ومن هذه المجتمعات ذاتها، إنما في الصفّ الآخر مع الحسين، من روائعها أن محمداً بن بشير الحضرمي جاءه وهو وسط معركة الطف، نبأ أسرِ ابنه بثغر الري، فقال له الحسين: أنت في حلّ من بيعتي، فاعمل في فكاك ولدك، فكان جوابه: لا والله لا أفعلُ ذلك، أكلتني السباعُ حياً إن فارقتك!
من يضيق عليه وقته، أو لا تسعه العودة إلى المصادر الكبرى، ويريد أن يربح الوقت ويغتنم المعرفة الحسينية، فعليه بالموسوعية الفذّة التي ينطوي عليها كتاب «مع الحسين في نهضته»!