قد يبدو العاقل بين المجانين مجنوناً من طراز خاص، مثل الأعشى الذي يبدو بين العميان ملكاً، ولذلك يقول خضير الزيدي قبل الدخول الى روايته «فاليوم عشرة « (من العقل أن أصبح مجنوناً وأنا أسير في شوارع بغداد الآن) فأي عاقل حقيقي يمكنه استيعاب ما حدث وما يحدث لهذه المدينة الشائخة، التي لو كان بمقدورها أن تصرخ من هول ما جرى لها لتهاوت الجبال.
الزمن مبعثر، لابد أن يكون كذلك مادام زمن الواقع مختل، وأحداث الرواية تبدأ من جامع النوري في الموصل حيث سيلقي (الخليفة خطبته) ومن حوله المؤمنون القادمون من العصور الحجرية، وستعرضها القناة الفرنسية ضمن فيلم وثائقي يقوم بإعداده والمشاركة فيه سلام وافي بطل الرواية الذي يعمل في القناة نفسها، والأسلوب يعتمد اللقطات السينمائية فلكأنك تشاهد فيلماً، أسلوب خاص بالمؤلف لا يشبه أسلوب الآخرين، يتنقل بقارئه من مكان الى آخر، ومن زمن الى زمن، ومن حال الى حال، والأحوال جميعها لا تسر ولا تبشر بضوء في آخر النفق، لأن النفق المعتم يأخذك الى أنفاق أكثر عتمة.
ها أنت تجلس، مثلما تجلس في بيتك، وتشاهد قناة أجنبية تعرض لك بعض مصائب الزمن الذي تعيشه، زمن لا يمت للحضارة بصلة، يخطب الخليفة في لقطة، ثم تتوالى اللقطات لتؤثث بيت الرواية، لتص بعدها الى آخر الشوط في نهاية الرواية عندما يؤتى بعشرة رجال يقدمون لك عرضاً غريباً للانتحار .. بطل الرواية الإعلامي سلام وافي القادم من كندا يؤدي مهمته الإعلامية ببطء شديد، سبعون يوماً مضت عليه في بغداد ومايزال في قلب المهمة، قلق ورعب وضياع وأحلام وكوابيس، والعقيد غسان يسير وحيداً بدموعه المنهمرة وروحه الممزقة، يعبر مساحات شاسعة، وودياناً ومنخفضات ومقابر ومواضع جنود خالية وسيطرات محروقة، محاولاً الوصول الى شوارع المدينة، إنه آخر المنسحبين منها بعد أن دخلها الدواعش، لكن الفيلم يتجاهل بعد ذلك ما حدث للمدينة وللعقيد، ويركز على سلام وافي الذي استُدرِج للحديث في الفيلم، ففوجىء وهو يشاهده بأنهم نصبوا له فخاً لفضح أسراره (كل هذا حدث بصفقة مالية بين وكالة جوو الفرنسية وهذه القناة عبر وسيط منتج آخر، حيث بثت القناة وعبر إفادات الشخوص المحيطين بي شريطاً وثائقياً عن حياتي الشخصية، وأهملت عن قصد واضح قصة انسحاب آخر المدافعين عن المدينة) ص15
تثير الرواية الكثير من الأسئلة وتعتمد السخرية المرة على ما حدث وأدى الى الصدمة التي تقود الى الذهول وفقدان الثقة واليأس من واقع يشبه لوحة سريالية لا أحد يفك طلاسمها، ومن خلال ما جرى، وفي الوقت الذي يسلط الكاتب الضوء على المأساة فإنه لا ينسى أن ينقل القارئ الى عالم آخر أكثر خصوصية، عالم السارد سلام وأسراره الشخصية، الى حياته في كندا وما رافقها من اضطرابات، عالم مشحون بالشهوات والنزوات وحب النساء، ثم تكليفه بمهمة البحث في بغداد عن أصيل ابن سليمة حنظل المرأة التي أحبها من طرف واحد، ليقنعه بالالتحاق بأمه في كندا، وتدخل الرواية في تشابكات معقدة عندما يعثر أصيل على قرص فيه معلومات مهمة فيخبئه ليبحث عن فرصة بمساعدة سلام وافي لتهريب القرص خارج البلد.
يدير خضير الزيدي تلك الأحداث والتشابكات بمهارة فنية عالية، ويضعنا أمام واقع مر دخل فيه البلد نفقاً معتماً لا نرى فيه بصيص أمل بل يبدو العبور الى المستقبل نوعاً من الوهم، ويضعنا مباشرة أمام الأحداث، لا ترميز ولا غموض، لأن الواقع الذي يراه ونعيشه جميعاً واضح وضوح الشمس، يرسم لوحته الإبداعية بأصابع فنان يدغم الالوان فيتسيد اللون الأسود لهذا الواقع، حتى الخيال المفزع للمشهد الأخير انتزعه من عمق الواقع فاستفز مشاعرنا وبدا الموت انتحاراً لابد منه، انتحار محكم ضد الحياة واللاحياة مسجلاً بالصوت والصورة بطريقة لا تخطر على بال، لذلك كله استحقت الرواية فوزها بجائزة الإبداع العراقي.