من تجاذبات الداخل وذهان السهولة إلى مجلس الأمن الدولي

العراق 2019/09/07
...

جواد علي كسار
 
تركزت جهود إيران ما قبل اتفاق فيينا 2015م مضمونياً، على ستراتيجية منع وصول الملف النووي إلى مجلس الأمن، وإبقائه فنياً ضمن ملابسات البروتوكول الإضافي لعام 2003م قبولاً ورفضاً، وتحريكه من حيث الإحداثية المكانية بين جنيف وفيينا بعيداً عن واشنطن ونيويورك، والحرص على إدارته من خلال الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وفتح هوامش مناورة تسويقية وتنفيذية من خلال أوروبا عبر مجموعة الثلاث (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا) أو بإقحام مناوراتي عملياتي لروسيا والصين، عبر مجموعة (5 + 1).
لكن هذه التحوّلات بمجموعها كانت نصف الصورة أو الوجه الأول وحسب، في حين تمثل النصف أو الوجه الآخر، بمتغيّرات المشهد وتقلباته بل صراعاته داخل إيران نفسها، وهو الحقل الذي كان ولا يزال محوراً لتنافس المؤسّسات، وصراع الأجنحة والمكوّنات، واحتدام الرؤى والمواقف بعنفٍ وصخب، بما تجاوز النقد والرأي والرأي الآخر، وبلغ حدّ الاتّهام والتخوين والضرب تحت الحزام، قبل اتفاق فيينا ومعه وبعده وللآن، على ما سنرى في هذه المتابعة.
 
الادّعاء العريض!
يقدّم محمد جواد ظريف ادّعاءً عريضاً من أنه حقق جميع الأهداف المرجوّة أثناء إدارته للملف، وهو يقول: «من حُسن الحظّ، إلى الوقت الذي كنتُ مسؤولاً فيه، نجحنا في هذا المسار، ودفعنا الحركة إلى أمام، على النحو الذي حُفظت فيه المكاسب النووية، ولم يذهب الملف إلى مجلس الأمن، كما أحرزنا تقدّماً على طريق الحلّ في مجلس المحافظين». الأكثر من ذلك يعتقد ظريف أن قضية النووي بإدارته التفاوضية، استطاعت أن تؤثر إيجاباً في النخب السياسية في العالم وعلى الرأي العام العالمي، وتخلق انطباعاً بأن أمريكا هي المسؤولة عن التعثر والتعويق وليس إيران، وقد دأب على الاستشهاد بواقعتين تأييداً لما حققه من نجاح، الأولى هي التقارير المتتابعة لأمانة الوكالة الدولية لصالح إيران، والثانية وهي الأهمّ بنظره، شهادة كونداليزا رايس. استشهد ظريف مرّات عديدة بلقاء رايس مع وكالة رويترز آذار 2004م، حين كانت لا تزال مستشارة للأمن القومي، وهي تسجّل في ذلك اللقاء انقلاب الموازين لصالح إيران، التي استطاعت أن تضع أمريكا في قفص الاتّهام، وقد حصل ذلك كله في ظلّ رئاسة محمد خاتمي 1997ـ 2005م! (آقاى سفير، ص 152، 239، 255).
الحقيقة انجرّ ظريف وفريقه التفاوضي، والخطّ السياسي الذي يمثلهم في طهران، إلى ضرب من الرضا المبالغ به عن الذات، بل التضخّم والميل بعيداً عن الواقع، حتى طمع أن يُقنع الأمريكان بجدوى أن تكون إيران نووية: «كنتُ أريد أن أُقنع النخبة الذرية المتخصّصة في أمريكا، بأن التخصيب العلني الشفاف في إيران، هو أفضل لمنافع أمريكا نفسها، من أن تمنع التخصيب وتقف ضدّه»! (المصدر السابق، ص 213).
بيدَ أن هذه الصورة الوردية المفرطة بالتفاؤل وشيء غير قليل من الرومانسية السياسية ومن التبجح، ما لبثت أن تلاشت وانقلب المشهد بالكامل، على إثر متغيّرين اثنين ارتبط كلاهما بالساحة الداخلية الإيرانية!
 
إدارة احمدي نجاد
المتغيّر الأول دون شك هو وصول احمدي نجاد إلى الرئاسة سنة 2005م، وتراجع قوى اليسار الإيرانيّ بشقيه المتطرّف (منظمة مجاهدي الثورة الإسلامية) والمعتدل (مجمع علماء طهران ـ روحانيون) والقوى المصطفّة معهما، لصالح اليمين بشقيه أيضاً المتطرّف (جماعة حسين شريعتمداري وصحيفة كيهان، وبقايا حزب الله وأنصار مصباح يزدي ومدرسة حقاني) والمعتدل (جماعة علماء طهران ـ روحانيت) والقوى المنتظمة معهم.
بشأن النووي بدأ احمدي نجاد ستراتيجية هجومية ناقدة إبّان حملته الانتخابية وقبل انتصاره، كانت تركز على رفض المسار القائم برمته إبّان رئاسة خاتمي، مع نقد شديد اللهجة للفريق التفاوضي ورميه بكلّ النعوت، وتكثيف الهجوم خاصة على محمد جواد ظريف وسايروس ناصري وحسين موسويان، وتعميق الحملة المضادّة تحت عناوين من قبيل «عصابة نيويورك» و«فريق أمريكا في الخارجية»، وملء الأجواء بالصخب المناهض لهذه السياسة ورموزها، وأنها لم تحافظ على مصالح إيران الوطنية، وهي في خلاف مبطن مع سياسات المرشد خامنئي، وأنها تهاونت كثيراً في الرضوخ للغرب، بنصب أجهزة الرصد في ثلاث أو أربع مناطق من إيران، وفتحت المنشآت النووية للرقابة والتفتيش المباغت، وغير ذلك من التهم. والطريف أن سُوق التهم امتدّ حتى شمل شخصيات تُعرف ولا تزال رغم يمينيتها، بالكثير من التوازن والعقلانية مثل علي لاريجاني رئيس البرلمان الحالي، الذي قال في تقويم نتيجة عمل الفريق التفاوضي، نصاً: «أعطينا الدُرّ وأخذنا فصوص السُكّر!» (آقاى سفير، ص 238).
لندع ظريف يرسم لنا بكلماته بعض معالم انقلاب المشهد، وتعالي صوت التيار المناهض له ولفريقه، بل للحقبة الخاتمية ظاهراً، الرفسنجانية حقيقةً، وهو يقول: «لم تكن الحجة المنطقية وعدمها هي المدار في تلك البرهة، فقد كنا نمارس البحث الفني، لكنهم لم يكونوا يفهمون، وربما لم تكن لهم رغبة بالفهم. وحتى حين كنا نقول أن السيد [المرشد خامنئي] هو من أذِنَ بذلك، تراهم يردّدون أيضاً: لماذا قمتم بهذا؟ لا ينبغي لكم تسويغ فعالكم».
ينطلق ظريف بعد ذلك ليذكر مباشرة بأن ورطة إيران مع النووي نشأت من هنا، وهو يفيد بأن هذه الفعال ولغة الصخب والاتّهام في الداخل؛ هي المقدّمات التي أشعلت عالمياً أزمة الشك في النووي الإيراني، وأسّست لسوء الفهم من حول هذا الملف: «أعتقد بأن الشرارة الأولى لسوء الفهم والشك حيال أهداف إيران التي سادت على المستوى العالمي، انطلقت من هذه النقطة بالذات. أجل، كون الأمريكان والآخرون يطلقون التهم منذ البداية، لكن لم يكن هناك من يصغي لاتّهاماتهم، إلى أن عثروا على ذرائع لتسويغ اتّهاماتهم وتسويقها، حيث كانت واحدة من أهمّ ذرائعهم لذلك هي موضوع أجهزة (سي. تي. بي، تي ـ C.T.B.T) والضجيج الذي اشتعل من حولها في الداخل» (المصدر السابق نفسه).
في الواقع أن ظريف يكاد ينساق للغة خصومه ذاتها، وهو يستعمل مصطلحاتهم نفسها، في تفسيره للأوضاع الداخلية في بلاده، حين يقول نصاً: «ربما تكون مفردة الخيانة هي المصطلح المناسب الذي يخطر على الذهن، للحكم على هذا الصخب والغوغائية التي دهمت الداخل، وإذا أردنا التسامح بعض الشيء، ربما أمكننا أن نستفيد في الوصف والتبرير، من مصطلحات مثل الجهل والأمية، والبغض والحسد والضغينة» (آقاى سفير، ص 208).
والحصيلة كما يفيد ظريف هي خسارة عقد ونصف من الجهود المتراكمة، وهدرها والتفريط بها بالأباطيل والأكاذيب: «السياسة التي تواصلت أمام العالم على مدار خمسة عشر عاماً، وكلّ هذه النجاحات النووية التي تراكمت خلال تلك السنوات الخمس عشرة؛ تبدّدت بفعل الأكاذيب والضجيج والصراخ الذي افتعلته مجموعة محدّدة من الأشخاص، وتبدّلت إلى الضدّ، حين صنعوا انطباعاً تدريجياً على مستوى العالم؛ بأن إيران تسعى وراء السلاح!» (المصدر السابق نفسه).
 
ذهان السهولة!
صحيح أن ظريف يعيد صخب الداخل وتعويقه للملف النووي، إلى فئات متعدّدة، مثل الجهلة، والمغرضين، والخونة، وغير المختصين، وأدعياء الاختصاص والمهنية لكن من دون فهم وعلم ومعرفة، وإلى الحاقدين، والحاسدين أيضاً، لكنه يركّز كثيراً على ما يطلق عليه السذاجة وذهان السهولة، حتى بلغ الادّعاء ببعض هؤلاء، أن يُحدّدوا مدّة شهرين فقط لمعالجة الملف النووي وإغلاقه بالكامل! (آقاى سفير، ص 230).
دعونا نستعيد نصاً سبق أن اطلعنا عليه، يعطينا توصيفاً دقيقاً لذهان السهولة والسذاجة التي تقترن به، مع تحليل وجيز جداً لكنه معمّق لهذه الظاهرة، يعيدها إلى مرتكزين نفسي ومعرفي؛ يقول فيه ظريف: «من جهة يجترح الآخر الذرائع، ومن جهة أخرى نحن لا ندرك الحالة». ثمّ يضيف: «إن مشكلة نووينا، هي مشكلة نفسية ومعرفية» (المصدر السابق، ص 232).
 
الاستخفاف بالقرارات الدولية
يفخرُ ظريف معه حسين موسويان وسايروس ناصري وبقية أقطاب الفريق التفاوضي، من ورائهم حسن روحاني أميناً عاماً لمجلس الأمن الوطني وفوقهم جميعاً هاشمي رفسنجاني؛ يفخر هؤلاء أن عملهم مع إدارة محمد خاتمي وفي ظلّ رئاسته التي انتهت عام 2005م، لم يشهد صدور أي قرار دولي ضدّ إيران، لأن خاتمي استطاع إبطال ذرائع أمريكا لدفع الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن.
لكن مع الاستخفاف بالقرارات الدولية الذي ساد سياسة إيران على عهد الرئيس نجاد، تغيّر المشهد بالكامل، خاصة مع التصوّر الذي ترسّخ عند هذه الإدارة وأنصارها الكُثر في الداخل الإيراني، حين راح البعض: «يظنّ أن مجلس الأمن والعقوبات هي هراء، ولا صلة لأيّ منها بالواقع!» (المصدر السابق، ص 231).
يتجه ظريف بصراحة إلى تحميل حكومة احمدي نجاد مسؤولية ما آل إليه الملف النووي، والصورة السلبية التي خلقها لإيران في العالم: «في الحكومة اللاحقة [لخاتمي] تغيّر الخطاب وتغيّر أسلوب التنفيذ أيضاً حتى بلغنا الحصيلة التي نراها الآن؛ بمعنى أن العالم راح ينظر إلينا كقوّة مهدّدة للسلام والأمن، ومن ثمّ ينبغي الجواب على هذه المسألة وتحمّل المسؤولية في هذا النطاق، وإلا فإن جميع ما يُقال عدا ذلك هو دجل وتزييف وتجهيل» (المصدر السابق، ص 239). ثمّ يلجأ بعد ذلك إلى المقارنة المشوبة بالمباهاة، بين إدارته والإدارة اللاحقة للملف، ونقد سياسة الاستخفاف بالقرارات الأممية: «كنا تنفيذيين، لكن بلغ من حُسن تنفيذنا، أننا حين حققنا هذا القدر من التقنية التي كسبناها، لم يصدر ضدّنا أي قرار دولي، برغم أن السيدة رايس بذلت جهوداً عظيمة لكي يصطف العالم معها، حتى اضطرّت للارتباط بالاتحاد الأوربي». يضيف: «أما الآن فقد صدرت ضدّنا ستة قرارات من مجلس الأمن!» (المصدر السابق، ص 239).
يحمل ظريف بعنف على أصحاب التحليلات الأحادية، وعلى دائرة القرار التي كانت تستبعد إصدار مجلس الأمن لقراراته ضدّ إيران، ويُطالب بمحاسبتهم وأن يتحمّلوا المسؤولية: «مقتضى واجبنا بعنوان مراقب وخبير، أن نعلن عمّا كان يدور في العالم. وإذا عدتم إلى كتابات من كان ينعتنا بعنوان «عصابة نيويورك» في السنوات 2003ـ 2006م، على مختلف المواقع ولاسيّما موقع «باز تاب» سترى إصرارهم على عدم صدور قرار، بينما كان تكليفي كخبير، أن القرار سيصدر». وحين راحت القرارات تصدر تباعاً وتتراكم، ترى هؤلاء بدلاً من تراجعهم ومبادرتهم للتصحيح واحتواء مواقفهم الخاطئة، قفزوا خطوة إلى الأمام حين راحوا يستخفون بالقرارات، وبنعتها بأنها هراء ليست له قيمة ولا تمثّل شيئاً: «عندما صدر القرار، وجدنا أن أولئك بدلاً من إذعانهم إلى خطأ تصوّراتهم، تصدروا الموقف مجدّداً وتبجحوا بالقول أنه ليست ثمة أهمية للقرار؛ هؤلاء هم من ينبغي أن يُساءل ويُحاسب، وليس أنا وأمثالي الذين كنا نرصد الوضع ونضع التوقعات على نحوٍ سليم، استناداً إلى التجربة والتخصّص... خاصة وقد أصبح معروفاً من الذي أخطأ ومن الذي أصاب بتوقعاته» (المصدر السابق، ص 241).
 
السذاجة ومثال البرادعي!
ضمن الرقعة الموسومة بالعالم الثالث ومنها البلدان العربية والإسلامية، وفي ظلّ الأنظمة الأحادية كثيراً ما يُصاب العمل السياسي بقصر النظر، ويُبتلى بذهان السهولة والسذاجة. بشأن النووي يعطينا محمد جواد ظريف، مثالاً لهذه الحالة من سلوك مدير الوكالة الدولية في حينه محمد البرادعي وكيفية تعامل الإيرانيون معه، وهو يبدأ القصة كما يلي: «من كان على صلة بتفصيلات الملف النووي وملابساته، كان بمقدوره أن يعرف على مدار مختلف المراحل، كيف أن الزملاء الذين لا تخصّص لهم، كانوا يظنون بسذاجتهم المفرطة، أن الملف سيأخذ طريقه إلى الحلّ عاجلاً، بسبب قومية البرادعي أو دينه».
يعتقد ظريف أن البرادعي بمكره وسعة تجربته كموظف دولي على رأس وكالة عالمية، أدرك نوايا الإيرانيين الطيبة، الناشئة عن السذاجة وذهان السهولة، فراح يغذّيها ويوحي لهم بما يريدون ويناغي أمانيهم، من خلال لعبة الإغواء بالكلمات؛ هذه اللعبة التي يعطينا ظريف فكرةً عنها وهي تُمارَس على زملائه، بقوله: «يعتقد هؤلاء بأن الاستفادة من بعض الجمل التي لم تأتِ بنصٍ صريح في نظام الوكالة الدولية، هي لصالحهم كأن تستعمل الوكالة لفظ «عدم رعاية» بدلاً من «نقض»، حيث استخدم المدير العام لفظ: «breach of the obligation to comply» بدلاً من: «non compliance» ؛ أي عبّر بدلاً من كلمة «نقض» بكلمة: «نقض الالتزام بالتعهّد» حيث لم ينتبه الكثير إلى طبيعة النتيجة. لقد كان ينبغي لزملائنا غير المتخصّصين هؤلاء الذي يُفترض أنهم قطعوا شوطاً جيداً في التقدّم، أن يدركوا الفرق الظاهري بين هاتين الجملتين! بيد أن المشكلة أنهم كانوا يعتقدون أن هذه هي نهاية الحقوق الدولية، والحقّ أن العلم المحدود أسوأ من فقدان العلم!» (المصدر السابق نفسه).
لكن لماذا مارس المدير العام للوكالة الذرية محمد البرادعي، لعبة الكلمات هذه وخديعة المصطلحات مع الإيرانيين، وما الذي دفع الفريق الإيراني السياسي والتفاوضي للانجرار إليها، رغم ما عُرف به الإيرانيون عادة من حصافة في إدارة المفاوضات؟ يجيب ظريف على السؤال بالنحو التالي: «لقد سمع الزملاء مني ومن أمثالي في الجلسات، أن مصطلح «non compliance» في نظام الوكالة خطير، وأن استعماله من قِبل الأمانة ومجلس المحافظين، هو بمعنى إرجاع الملف إلى مجلس الأمن. لذلك انتابهم السرور حين قال البرادعي في تقريره: «breach of the obligation to comply»  وتحاشى استعمال تلك العبارة الخطيرة، على حين أن الجملة هذه: «breach of the obligation to comply»  هي التي جرّتنا إلى مجلس الأمن» (المصدر السابق، ص 233). يقرّع ظريف البرادعي على هذا الاستعمال السلبي للمصطلح، ويعزوه إلى مناورة سيئة، حيث كان البرادعي يفعل ذلك وعينه على أمريكا والولاية الثانية، ولا شأن له بإيران فضلاً عن مراعاة مصلحتها، حيث يقول: «لكي يحلّ السيد البرادعي مشكلته مع أمريكا ويحظى بالولاية الثانية، أقحم هذه الجملة في تقريره من دون وجه حقّ، فليس ثمة أي مرتكز قانوني يسمح للبرادعي باقحام هذه العبارة في التقرير».
لكن مع ذلك فإن اللوم لا يقع بنظر ظريف على البرادعي، بل على من صدّق به واستغفلهم من الإيرانيين، حيث يقول متمّماً: «مع ذلك استطاع البرادعي أن يدفع بعمله، من لا يملك أهلية الخبرة، إلى إبداء الرأي خبروياً بوصفه من أهل الخبرة والاختصاص. وإلا فإن من لا يدرك الفرق بين: «breach of the obligation to comply» و «non compliance» ولا يعلم العواقب الوخيمة المترتبة على ذلك في القانون الدولي، لا يمكنه أن يكتب تقريراً خبروياً، وليست له من هذه الزاوية أهلية أن يُبدي رأياً تخصّصياً. لكن ما يؤسف له أن بعض زملائنا ممن بلغ هذا الحدّ من عدم الفهم، سمحوا لأنفسهم بحقّ إبداء الخبرة وبيان الرأي التخصّصي! (المصدر السابق، ص 233ـ 234).
 
محطات الرصد
ثلاثة مثيرات داخلية للنووي الإيراني هي من وراء الضجّة والجدال المحتدم، الأول اتّهام الفريق التفاوضي بالانبطاح والانهزامية أمام أمريكا والغرب، والصراع الكبير حول معاهدة (سي. تي. بي. تي) لحظر التجارب النووية مطلقاً، والمثير الثالث هو قضية محطات الرصد الثلاث التي وافقت طهران على نصبها في أراضيها.
استكمالاً لبيان ذهان السهولة والسذاجة وانعدام الخبرة والتخصّص، يزوّدنا ظريف بمثالٍ تطبيقي للحالة، بأخذه من الجدل الشديد الذي دار حول أجهزة الرصد.
ما حصل في إيران أن فريقاً خليطاً من السياسيين والأكاديميين والإعلاميين وأدعياء التخصّص والخبرة، راح يخلط الأمور على نحوٍ عجيب، ويطلق: «ادّعاءات مختلفة من الاعتراف بإسرائيل إلى التجسّس عن طريق محطات سي. تي. بي. تي» وذلك بالرغم من أن معاهدة الـ (C. T. B.T) لن تكتسب طابعها التنفيذي إلا إذا أقرّها (144) بلداً في مجالسه النيابية، ومن بين هذه البلدان الأربعة والأربعين «إسرائيل» وأمريكا وروسيا وإيران، ومن ثمّ فإن: «من يدّعي كذباً في الداخل، بأن معنى سي. تي. بي. تي هو استسلام إيران لإسرائيل وخلع سلاحها أمامها، فإن هذه المعاهدة لن تكون واجبة التنفيذ بالنسبة إلى إيران حتى لو وقّعت عليها، ما دامت إسرائيل لم توقّع عليها!» (آقاى سفير، 201). حصة إيران من أجهزة الرصد هذه ثلاث محطات، تمّ التوافق عليها بعد مفاوضات طويلة وشاقة أدارها محمد جواد ظريف وسايروس ناصري، وأشرف عليها المجلس الأعلى للأمن الوطني، لكنها فجّرت جدلاً واسعاً في الداخل الإيراني بلغ حدّ الاتّهام بالتجسّس، ورمي الفريق التفاوضي بشتّى النعوت، أهونها التهاون بمصالح إيران والتضحية بسلامة أمنها الوطني!
لكن المفارقة الجاهلة أو القاصدة، أن المعارضين لهذه المحطات وأجهزتها في إيران، اكتفوا بالوجه الأول دون الثاني. يقول موضحاً: «لقد صُمّمت هذه المحطات على النحو الذي، إذا حصل انفجار ذري في الباكستان، يمكن لمحطات الأرجنتين أن ترصده أيضاً». يضيف: «على سبيل المثال، المحطات كلها رصدت التجربة النووية لكوريا الشمالية، لكن محطة واحدة ثبّتت أن هذا التفجير هو تجربة نووية؛ هي محطة أشعة «نوكلايد» الروسية، في حين ذكر الباقون أنهم لم يرصدوا أي أثر يُذكر للإشعاعات النووية». لذلك كله يستنتج ظريف: «إن كلّ الكلام الذي قيل وأُثير من قِبل السادة داخل إيران، لا قيمة له ولا يقوم على أساس، وهو من الهشاشة والضعف بحيث لا يستحقّ الردّ!» (المصدر السابق، ص 204).