للإحاطة بتجربة كبيرة مثل تجربة رعد عبد القادر الشعرية في أفق القراءة والتلقي بمستواهما الأفقي والعمودي، التي تجسدها مجاميعه الكثيرة بعضها صدر في حياته وبعضها الآخر بعد رحيله، تحتاج لطاقة قرائية موسوعية ورصينة، فهي تجربة تمتد منذ السبعينيات من القرن الماضي، الى بدايات الألفية الثالثة حيث موته المبكر في سنة 2003.
نتجت عنها: مرايا الأسئلة 1978- جوائز السنة الكبيسة 1995- دع البلبل يتعجب 1996- أوبرا الأميرة الضائعة 2000 - صقر فوق رأسه شمس 2002- عصر التسلية 2006 الأطروحة الشعبية1994، والمؤرخ الالكتروني2001، ومرايا عوليس الفلسطيني2002 وكتب وقصائد أخرى ضمتها أعماله الشعرية الكاملة التي صدرت عن دار الشؤون الثقافية عام 2013. يرافق وينسجم مع هذا الكم والنوع الهائل من القصائد والكتب الشعرية، رؤى وافكار وتنظيرات عن جوهر الشعر ونظريته.
في دائرة الذاكرة الكبرى
تنفتح نصوصه أو كتابته الشعرية الجديدة على نوع من السيرة أسميه (السيرة الشعرية) في هذه السيرة الشعرية لا تتم صياغة الأسطورة أو التاريخ صياغة أدبية تلتزم بمنطق الأسطورة أو التاريخ، ذلك ان السيرة الشعرية تنفذ بانفتاح في الشكل على أبنية روائية وقصصية ومسرحية متقدمة، حيث الزمن يتنوع والذات تشتبك واللغة تتشظى وحيث المكان يتبادل مواقعه مع الزمن.
في هذه السيرة يتداخل كل شيء الراوي والرواية والمروى عنه يتبادلون أوقاتهم وأدوارهم وأمكنتهم مرة يصبح الراوي رواية ومروياً عنه وإذ ذاك تصبح الذاكرة خزانة سحرية لوثائق النص. ومرة ينسحب الراوي لتظهر الرواية كذاكرة لوثائق الراوي. ومرة ثالثة تنغلق الذاكرة الأولى والثانية لتنفتح ذاكرة ثالثة هي ذاكرة المروى عنه. وهكذا تستمر عملية الفتح والغلق داخل دائرة الذاكرة الكبرى للسيرة الشعرية. هكذا يكشف الشاعر عن طبيعة تحرك العناصر( السيرية ) في النص.
قصيدة الشاعر رعد عبد القادر حكاية مفتوحة على النقصان الذي يثريه التلميح، عبر بنى رمزية ومجازية، يسندها سرد شعري يتموج فيه التعبير الصريح، والاختزال العاطفي. قصيدة مشاعر وأحاسيس وتصورات وأفكار، قصيدة كأنها مشهد سينمائي مركب من لقطات وصور.
النقطة الأساس في شؤون الكتابة الشعرية هي الخيال، والخيال بحسب ما أتصور هو نتيجة الطاقة العقلية المتفاعلة مع الواقع والقادرة على توليد المشاعر والأحاسيس والتصورات والأفكار.
ان العلاقة بين الخيال وبين النص الشعري هي علاقة غير ظاهرة الا بالقدرة على تنظيم وقائع الخيال داخل النص وما نجده – في الحقيقة – من تنام ٍ في بناء النص الشعري هو ليس أكثر من القدرة على تنظيم تلك الوقائع بالخبرة التي يفتح بها الشاعر خزائن حواسه أولا ومن ثم تصرفه بها- كأنه المالك المطلق لها- في أثناء جدله مع الواقع بفعل الكتابة. ان كتابة الشعر هي خيال الواقع لحظة غيابه، وهي أعلى لحظات التجلي الشعري كما يؤكد الشاعر نفسه.
ان الواقع يمدنا بالخيال ولكن الخيال في النص الشعري يجعلنا نعيش حالة مزدوجة هي بين الاغتراب والالتحام، إننا نعيد للواقع أشياءه ولكننا نعيدها له نصوصا قد يتنكر لها ولكنها نصوصه بامتياز، وتلك محنتنا جميعا مع القارئ الرديء.
أعتقد ان حقيقة القصيدة إنما تنبع من إدراك شاعرها ان هناك علاقة تكمن تحت الظواهر، التي لا صلة بينها، وتنظمها جميعاً ومن الممكن ان أستشهد بتعريف بودلير للخيال الشعري بأنه: اشد المواهب علمية لأنه وحده يفهم التجانس الكوني. وربما "عملا خياليا يقوم على الواقع إنما يحمل معنى اكبر من ذلك العمل الذي ينبع كليا من الخيال" على حد تعبير القاص التريندادي ميشال انطوني.
قوارب الأبدية وغضب النظام
اما قصيدته ( قوارب الأبدية) المنشورة في جريدة الجمهورية في بداية التسعينيات أو بعد انتفاضة آذار بشهور، التي لم يحصل على نسختها، بعد أن ضاع منه أصلها. ولم تتضمنها أعماله الشعرية الكاملة التي صدرت، ولم نجدها في أي مجموعة شعرية أخرى، لأن الشاعر لم يحتفظ بنصها الأصلي ايضاً، كما قال لي في حينها وطلبها مني ولكن ظروفي الخاصة حالت من دون وصولها إليه. في تواجدنا ذاته في مقهى الجماهير سنة 1997 أكد لي "أنها قصيدتي الأولى التي أثارت غضب النظام عليّ، وجعلت رقيب الثقافة الصدامي يضع علامة استفهام كبيرة حول اسمي ومؤشرا لبداية جديدة للتعامل معي بوصفي شاعرا معارضا للدكتاتور ولبقائه في السلطة":
زعموا إنها تفرّغُ حمولتَها في كلّ شتاءٍ
وتبدلُ طاقمَها في كلّ رحلة،
كذلك انشغلوا بالدهانِ والصباغِ
وأورثوا كلّ ملةٍ خشبةً ومسماراً
ليصلحوا من شأنِ قواربِ الأبدية.
هم تركوا الخرائطَ على الأرضِ
والمصباحَ المنيرَ
والاصطرلاب
وحشوا جيوبَهم برنينِ المعدن...
كانت فراشةٌ من القصدير تحلّـقُ فوق رؤوسِهم
وشجرةٌ من النحاسِ
ترافقهم فوق ترابِ الأبدية.
الطاقم والبلاد وأشجار النحاس
بقواربه يحول أبدية هذه البلاد التي بلا ولادة ولا موت، الى منظر براني، هو منفذ نحو المرئي والفناء، لأن طاقمها ترك الخرائط والمصباح والاصطرلاب، وسار بلا بوصلة، وملأ جيوبه بالمال والذهب. هذا الفعل العابث يثبت بطلان الرحلة، ويؤكد تناقض الزمان الذي يخلق لحظاته من اجل الأبدية التي هي غايته وزواله في آن معا. فكأنه يوجد من اجل ان يفنى ،وكأن هدفه هو تدمير نفسه في دورة خرقاء لا طائل تحتها.
هذه القوارب أو هذه السفينة ( الحياة) التي هي مكان للصيرورة والبناء والرفعة والتأسيس والبدايات الجديدة الخارقة. خرقها (الكابتن) بعنجهيته وظلمه وظلامه وأمراضه، وغبائه فأضاع الخرائط وكسر المصباح المنير لتعم العتمة. ترك الاصطرلاب أداة العلم، استبدلها بسيف القعقاع وصحيحي مسلم والبخاري، ذاهباً في رحلة إيمانية كاذبة. جعل البلاد مكاناً حربياّ مرعباً ،مكان بلاستيكي يتكسّر كل لحظة، مكان موت وزوال. فانشغل الطاقم به، بتلميع صوره وخط لافتاته، وكتابة بياناته وصناعة الأقنعة، وفرّقوا الطوائف لكل طائفة راية وسيف وكتاب صحيح لأحدهم، وخشبة ومسمار، وبرؤوس خائسة، وعقائد ميتة يدعون إصلاح شأن السفينة، بحاضرها ومستقبلها، إصلاح أبدية الوجود التي طردتهم وستطرد اللاحقين منهم الى المزابل والمقابر بعد ان كنزوا الذهب والفضة، دفنتهم الأبدية في ترابها، وجمدت أرواحهم البلاستيكية كفراشات من القصدير على أغصان شجرة عمياء لم تثمر ،هي شجرة النحاس، شجرة الحرب.