د. صبري مسلم حمادي
هل يمكن للقاص الفنان أن يحدس ما سيحدث في المستقبل وعبر فنه السردي، سواء أكان هذا في مجال القصة القصيرة أو الرواية؟ بمعنى أن يأخذ دور العراف فيرى ما لا يراه غيره، أو لنقل إنه يفترض ما سيحصل في الغد القريب أو البعيد بناء على الحاضر والماضي. وحين انتهت حرب الثمانية أعوام في 1988، تلك الحرب الطويلة القاسية، بدأت أقلام الفنانين في مجال القصة القصيرة تحاول سبر المرحلة القادمة مرحلة ما بعد الحرب. وقد انتقيت ثلاث قصص قصيرة صدرت عام 1988 ونشرت في حينها في مجلة الأقلام، وهي لثلاثة رواد في هذا الفن هم محمد خضير ومحمود جنداري وجهاد مجيد.
استهل القاص محمد خضير قصته "رؤيا البرج " بتساؤل عن تلك الرؤيا التي حفزته لكتابة قصته "من لي بلسان ينوب عني في سرد هذه الرؤيا ؟" هيهات مالك إلا لسانه ، المهندس الذي صمم متاهة البرج واستقر فيها ، "اهبط ، اقتف أثره إلى خلوة الرؤيا ، ساعديني يا عشتار الحبيبة."(1) وبهذا فهو يفتتح قصته بأداة فنية عريقة ألا وهي الرؤيا التي تستشرف المستقبل وتلعب دوراً مهماً في تحريك أحداث القصة مما يذكرنا بأسطورة جلجامش السومرية ذات الصياغة الملحمية إذ يرد فيها أن أنكيدو يقص رؤياه على صديقه فيقول له " يا خلي ، رأيت الليلة الماضية رؤيا ، كانت السماء ترعد فاستجابت لها الأرض ، وعندما كنت واقفاً ما بينهما ظهر أمامي شخص مكفهر الوجه ، كان وجهه مثل وجه طير الصاعقة زو ، ومخالبه كأظافر النسر ، لقد عراني من لباسي ، وأمسك بي بمخالبه وأخذ بخناقي حتى خمدت أنفاسي "(2) وتتحقق رؤيا أنكيدو. ولكن القاص خضير يتجه بالرؤيا صوب الإشراق والتفاؤل وهو يستشرف مستقبل مدينته التي أنهكتها الحرب. ولم يشأ أن يتحدث عن هذا حديثاً مباشراً ، فخلق مدينته الخاصة التي خاضت حربا مدمرة وهي الآن تنعم بالسلام منذ ثلاثة عقود "كانت الحرب قد انتهت ، ومضت ثلاثة عقود على وصول آخر وجبة من الأسرى إلى المدينة ، طهر النهر ، وصفا الهواء من روائح الجثث المتفسخة ، وغرست الفسائل في حقول النخيل المقطوعة أو المحروقة على جانبي النهر ، غدا السلام حقيقة متماسكة ، فبني
البرج"(3).
وقد انتظمت عشتار هذه القصة مثلما ينتظم خيط من حرير عقدا من اللؤلؤ فكأنها بطلة القصة ، خاطبها القاص منذ السطور الأولى للقصة على لسان الراوي الأول ، وعشتار ذاتها هي التي كانت موضوع رؤيا ذلك المهندس العظيم ، متعدد الأسماء ، وهو الراوي الثاني في القصة (إدريس بن سينا) الذي تخلى عن أسمائه الكثيرة الماضية ابتداء بتخطيطه أسوار مدينة أوروك وانتهاء بالبرج الهائل الذي يتواشج من خلاله الحلم مع الحقيقة ، إنه جلجامش باني أوروك وهو نبوخذ نصر مبدع الجنائن المعلقة، بل هو كل البناة على مدى التاريخ الحضاري لهذا الوطن العريق . وكما أن عشتار ربة الخصب والنماء تعلقت بجلجامش إثر انتصاره على الوحش خمبابا فإنها أحبت إدريس بن سينا لأنه صمم البرج الشاهق العجيب الذي يبدو وكأنه صورة من صور الخيال العلمي في بعض وجوهه " كما تقع العين على ألواح الخلايا الشمسية المائلة التي تغذي بطاريات البرج بطاقة كهربائية عالية ، تخزنها لآماد طويلة."(4).
ويتوحد البطلان جلجامش وإدريس كما تتوحد عشتار مع حبيبة إدريس التي ملأت أحلامه – كما عبر القاص – (5) ، فكانت رؤياه إنما هي رؤيا شعب بأكمله "كان عشرون أو خمسون حالما، شعب كامل يحلم معك بهذا البرج في الوقت نفسه ."(6) .
ويبدو هذا التوحد من خلال حوار إدريس بن سينا مع حبيبته "قال :إني كالباب الخلفي لا يصد ريحاً أو يمنع عاصفة ... اتهمني بخيانته مع راع له ... وتركت الراعي هائماً في السهول كالطائر المرقط ينوح صائحاً " يا جناحي ...(7) ، ويرد مثل هذا في الأسطورة السومرية بشكل يكاد يكون مطابقاً ، ومثلما
تعلقت عشتار (الحياة والحب) بجلجامش فإن عشتار إدريس بن سينا سعت إلى ذلك المهندس الذي رسمته مخيلة القاص الخصبة، وستظل الحياة مشخصة بصورة عشتار أو غيرها تبارك خطى البناة الحقيقيين ممن تركوا بصمات أصابعهم واضحة جلية في سجل الحياة الخالد .
إنّ القاص هنا ينطلق من فهم خاص للبطولة، فلكل مرحلة من مراحل الإنسانية نمطها البطولي ، والأبطال الحقيقيون في المرحلة التي كتب فيها القاص قصته – مرحلة ما بعد الحرب - هم البناة ومهندسو الحياة الجديدة وصانعو الشوامخ الحضارية الخالدة ، ولذلك تخاطب الحبيبة إدريس بن سينا بقولها " اخترتك زوجاً وفضلتك على الرعاة والكهنة والأسياد.(8) ولكن الذي حصل لم يكن يتوقعه القاص الذي أراد لوطنه العراق أن ينهض وأن يلتفت إلى البناء والإعمار والإبداع، إذ ورط فيها الدكتاتور السابق العراق وشعبه بحرب أخرى مع الأشقاء العرب وبمحض إرادته الفردية وبناء على أوهام العظمة بعد أن أنهك العراق وكبده أقصى الخسائر في الحرب العراقية الإيرانية.
الهوامش :
(1) رؤيا البرج ، محمد خضير ، مجلة الأقلام ، العدد (11-12) ، السنة الثالثة والعشرون ، بغداد 1988 ، ص 136 .
(2) ملحمة جلجامش ، طه باقر دار الحرية للطباعة ، الطبعة الرابعة ، بغداد 1980 ، ص 122 .
(3) رؤيا البرج ، ص 136 .
(4) رؤيا البرج ، ص137 .
(5) رؤيا البرج ، ص143 .
(6) رؤيا البرج ، ص 144 .
(7) رؤيا البرج ، ص 143 .
(8) رؤيا البرج ، ص143 .