ثمة من يعتمد في نصه بنية تنظيمية تجعل القارئ مجبرًا على تتبع مسارها، وهناك من يبدأ من دون فكرة مسبقة ثم يأتي الكتابة بعدة مشتتة سيجدها بعد حين تنتظم في سياق ما، وهناك من يجمع بين الاثنين، أفكارمخطط لها مسبقا من دون تفاصيل، ما أن توضع على الورقة البيضاء حتى تبدأ بالتشكل بفعل ذاتي أو خارجي ليجد المؤلف أنها أصبحت جديرة بالمواصلة أو بحذفها، لتتيح لفكرة أخرى كانت مضمرة في المحذوف وقد برزت للتو من الداخل، لتصبح في
الواجهة.
هكذا تكون العشوائية جانبا مهما من التنظيم، فالتنظيم ليس مسطرة وفرجالا بيد المؤلف جاهزين للعمل،بل هما مجموعة أدوات تستدعى كلما تطلب النص البقاء ضمن مساره، ومن يشتغل في التأليف يجد نفسه في لحظات أنه في اشباك مضن مع الكتابة ،عندما تتفتح أمام مخيلته طرق عديدة لتسيير قافلة كلماته، عندئذ يجد نفسه في حيرة، هل يذهب بها حيث رغبات الذات أم رغبات الشخصيات أم ما يتطلبه الحدث ومساره، وقد تقف وراءه رغبات المجتمع والقضايا التي تتحكم به.
أم أن امر التنظيم لا هذا ولا ذاك ،بل هو وقفة حائر في مفترق الطرق، ويدير وجهه في كل الاتجاهات، عسى أن يكون ثمة أفق أوضح في مسار الطريق الذي سيختاره، والكثير منا، إن لم أقل أغلبنا، بدأ وتوقف بعد مجموعة جمل، لأن ثمة طريق ثانية كانت مختفية في الطريق الأولى، قد تكون الأقدر على الوصل إلى غابة النص المشتبكة الاغضان والفروع، ومع ذلك يتوقف الكاتب ولا يسير بالرغم من وضوح هذا الطريق. فليس الوضوح دائما يؤدي إلى نتيجة مريحة، ربما يؤديها الغموض والاستحالة والصعوبات، فكل هذه العقبات تشحذ العقل وتفتح فيه مسارات جديدة، فاللاوعي المعرفي بامكانه أن يشحذ خيالنا المادي ويكتشف طرقا في المسارات المغلقة، وهو ما يجب أن تكون عليه مغامرة التاليف.
لقد سعى دانتي في الجحيم إلى سلوك عشرات الطرق الفرعية للوصول إلى المطهر،ولكنه لم يفلح إلا بطريق واحدة، تبين بعد الفحص أنها كانت مجموعة تلك الطرق المتخيلة التي حاول سلوكها والتفكير بها ثم تركها، بينما دخلت في لا وعيه المعرفي لتكمل الطريق الذي اعتمده، كل سلوك ،مهما كان لتحقيق غاية ما، سيسند بمسالك وطرق خفية تستدعيها الرغبات المدفونة في لا وعينا الجمعي.، لذا علينا أن نتوقف كلما أحسسنا ان الكلمات لم تعد ذات جدوى في احتواء الحال، والبحث في داخل اللغة قبل غيرها إن كان الطريق الذي تسلكه غير معوج أو غيرمستقيم، فالطريق الذي يحمل مخاطر أفضل بكثير من الطريق المجربة.
هكذا هو اسلوب الكتابة، كل نص له اسلوبه الذي يحمل مخاطره وأخطاءه. اللغوية وامكانياته المضمرة، مثلما يحمل صوابه ووجهة نظره.
وقد يجد الكاتب ان الطريق المبني على سطح الحياة اليومية الذي تسلكه جموع الناس، لا قيمة كبيرة له لأن الأقدام الماشية تضيَّع اثارها ايضًا عندما تتقصد تضييع آثار غيرها، لذا يبدأ السؤال الجاد بازاحة السطح الذي يسير عليه الجميع، والكشف عن بعد ثان في الطريق نفسه ،بعدٌ لايحمل اثرًا إلا اثقال الماشين السابقين، ثم يبدأ بالسير فيه، وسيجد نفسه بعد فترة من مساره مضطرا أيضًا إلى حفر جديد لإزاحة السطح الثاني من الطريق بحثا عن سطح ثالث أعمق، فالتأليف فلاحة في أرض مجهولة.