عندما يدرس العلماء الروايات
ثقافة
2019/09/16
+A
-A
أرون هانلون
ترجمة: جمال جمعة
المنهجية الاختزالية ،ممارسة تفسير شيء كبير ومعقد من حيث أجزائه الأبسط والأصغر حجماً ـ هي قوة ومأزق بالنسبة للمقاربات العلمية مع الأدب على حد سواء. يقدم عالم الأعصاب هوارد فيلدز تناظراً مفيداً لفهم المشكلة مع الاختزالية: "تماماً كما لو أنه من العبث تحليل كتاب من خلال دراسة التركيب الكيميائي للورق والحبر، فإن التحليل الاختزالي لنشاط الدماغ [...] يفشل في توضيح ما الذي ينجزه نشاط الدماغ"*.
ومع ذلك، فإن الاختزالية في الدراسة العلمية للأدب لا تتعلق بكيمياء الورق بقدر تحديد مفاهيم معقدة بدقة. المشكلة أن هذا ينطوي على تعريفات مخصصة لن يعترف بها خبراء الأدب مطلقاً. فعلى سبيل المثال، أحد أكثر النتائج العلمية، التي نوقشت على نطاق واسع بشأن الروايات ـ إن قراءة الروايات تجعل من الناس أفضل في فهم مشاعر الآخرين ـ يأخذ بعض الحريات المترتبة على الجانب "الأدبي" من البحث.
ووفقاً للنتائج، فإن الفائدة من القدرة الأكبر على فهم مشاعر الآخرين تتراكم عند أولئك الذين يقرؤون الروايات "الرصينة"، وليس الروايات "التجارية". ضمن شروط الدراسة، فإن هذا يعني "أمثال سلمان رشدي، هاربر لي وتوني موريسون"، لكن ليس "دانيال ستيل وكلايف كوسلر".
لكن الناس الذين يدرسون، يدرّسون، يقرؤون، ويكتبون ما يتعلق بالأدب سيتساءلون بالتأكيد عما إذا كانت روايات مثل "الساعة الميكانيكية"، "عالم جديد شجاع"، ثلاثية "سيد الخواتم"، "بيت أوراق الشجر"، "العالم المتوهج"، أو "حكايات يدوية الصنع"، تعدّ روايات "أدبية" أم "تجارية". ونريد أن نعرف لماذا نعم ولماذا لا ؟ .
النقطة هنا ليست في إلقاء المفتاح بطريقة علمية واعدة لدراسة الروايات وتأثيرها على العالم، ولا في استخدام شكل مهمش من أشكال التخصص ـ التخصص في الأدب ـ لعلماء متصيدين. النقطة هي بالأحرى فهم ما هو شكل الرواية "الرصينة" إزاء "التجارية" ـ موضوع دراسة ونقاش قديم للغاية ضمن الحلقات الأدبية ـ هو أمر أساسي، وليس ثانوياً، للنتائج العلمية حول تأثير قراءة الروايات.
يدعي يميل إيمانويل كاستانو، مؤلف مشارك (مع دافيد كيد) في تلك الدراسة، أن "الرواية الرصينة [...] تميل إلى تحدي الفئات الاجتماعية ـ الشخصيات مناهضة طبقياً [...] الروايات الشعبية، من ناحية أخرى تستخدم أنواعاً من الشخصيات تساعدنا على فهم ما يحدث فوراً". لكن بتقليص الرواية إلى فئات "رصينة" و"تجارية" يعتمد على انطباعات سطحية عن مدى تعقيد أو صياغة الشخصيات، عن كيفية مسار الأحداث أو الشخوص في الرواية، أو عن مدى "شعبية" تلك الرواية، فإن كاستانو يتجنب بشكل أساسي حفنة من الأسئلة الهامة التي طرحها أساتذة الأدب لقرون، وأجابوا عنها بتفاصيل أكثر بكثير، مرتكزين على أدلة، وبطرق مقنعة. ونتيجة لذلك، فالانطباعات التي ترسمها الدراسة حول أية أنواع من الرواية تغذي أي نوع من المنافع هو أمر مبلبل دائماً. على سبيل المثال، هل يمكن لشخص مهتم بتحسين نظريتهم الذهنية أن يلتقط رواية مثل رواية "إيفانهو" لوالتر سكوت، التي تعتبر على نطاق واسع "كلاسيكية" ضمن الرواية الأدبية، لكنها أيضاً تستند على أحد أقدم النماذج البدائية للشخصية ـ الفارس البطل ـ في واحد من أقدم فروع أدب الخيال،
الرومانسي؟
ومع ذلك، هؤلاء الذين يهتمون بالأدب ومكانته في العالم ينبغي تشجيعهم على الاهتمام العلمي بالروايات، حتى اذا كان العلماء وأساتذة الأدب يحتاجون بشكل عام للقيام بعمل أفضل في التواصل مع بعضهم البعض لتوليد أفكار أكثر إقناعاً حول كيفية عمل الأدب ، ولماذا يجب أن نهتم ؟ . ثمة كتاب جديد، "السنتات والإحساس": ماذا يمكن أن يتعلمه علم الاقتصاد من العلوم الإنسانية"، شارك في تأليفه غاري ساول مورسون، بروفيسور في الفنون والعلوم الإنسانية، ومورتن شابيرو، بروفسور اقتصاد ورئيس جامعة نورث وسترن، يقدم حجة قوية عن أهمية الأدب، على وجه الخصوص، في فهم مظاهر السلوك الإنساني الذي حاول الاقتصاديون تجسيدها مع النماذج الاقتصادية دون
جدوى.
وفقاً لمورسون وشابيرو، فالاقتصاديون يناضلون بثلاثة أشياء على وجه الخصوص: "حسابات المستقبل، استخدام التفسير السردي، معالجة قضايا أخلاقية لا يمكن اختزالها إلى فئات اقتصادية فقط". الحل بالنسبة لمورسون وشابيرو هو إيلاء المزيد من الاهتمام للنتاجات الثقافية مثل الأدب، ومن ثم استخلاص الدروس مما يخبرنا به الأدب عن البشر، الذين حياتهم "لا تتكشف في نمط قابل للتنبؤ بنفس الطريقة التي يدور بها المريخ حول الشمس". علاوة على ذلك، كما يكتب مورسون وشابيرو، " فليس هناك مصدر أفضل للبصيرة الأخلاقية من روايات تولستوي، دوستويفسكي، جورج إليوت، جين أوستن، هنري جيمس، وغيرهم من الواقعيين العظام.
أتفق إلى حد كبير، وأرحب بالاقتصاديين، وعلماء الأعصاب، وعلماء النفس الاجتماعي، وأي من يريد المساهمة في الدراسات الأدبية. لكنني أريد كذلك أن ألمح إلى أنه ليس أكثر مما يمكنني بدء عمل بحوث اقتصادية من دون أن أمتلك شخصياً بعض معارف بالمناهج الاقتصادية، العلماء وعلماء الاجتماع الذين يتحولون إلى الأدب من أجل الاستبصار يجب عليهم ألا يتجاهلوا المعارف التي أنتجها الأدباء وأساتذة الأدب وما زالوا ينتجونها حول الأدب.
وبتعابير أكثر تحديداً، قد نعتبر في المثال التوضيحي لرواية دانيال ديفو "روبنسون كروزو"، التي تعتبر على نطاق واسع إحدى أوائل الروايات في تراث اللغة الإنجليزية، لكنها أيضاً مألوفة إلى حد بعيد لدى الاقتصاديين. وذلك لأن الاقتصاديين استخدموا منذ زمن طويل رواية ديفو كتجربة فكرية لبعض القضايا الأساسية في علم الاقتصاد. إن ما يسميه علماء الاقتصاد "اقتصاد روبنسون كروزو" هو اقتصاد بسيط يعكس الظروف التي يعيش في ظلها بطل رواية ديفو، كروزو، في جزيرة نائية، مهجورة بعد أن غرقت سفينته: اقتصاد بمستهلك واحد، منتج واحد، وسلعتين (جوز هند ووقت فراغ) تتنافسان على وقت كروزو واهتمامه.
إن الأمر الذي يدور حوله الاقتصاد في الواقع أن العمل في رواية ديفو هو أن كروزو يعتمد على عمل عبودي قبل فترة وجوده واثناها على الجزيرة. والجزيرة، التي هي أبعد عن أن تكون مهجورة، مأهولة بأمريكان أصليين مصورين بصورة فجة، نمطية stereotyped قبل ظهور كروزو. ثمة القليل مما يربط اقتصاد روبنسون كروزو بالعوامل الاقتصادية الأساسية الممثلة في رواية ديفو.
في حين أن الغرض من اقتصاد روبنسون كروزو هو أن يقدم كدرس موضوعي لتعليم المبادئ الأساسية في علم الاقتصاد، فإن رواية روبنسون كروزو هي بحد ذاتها درس موضوعي حول لماذا من غير الممكن اختزال علم الاقتصاد إلى تجارب فكرية حول السلوك الفردي في الخلاء (أو على جزيرة مهجورة، كما كانت). إن الدرس الاقتصادي الأكثر إثارة للدهشة في "روبنسون كروزو" هو أن من بين كل اجتهادات كروزو وميوله للمخاطرة، فإن ما يجعله غنياً أخيراً عند نهاية الرواية هي مزرعة في البرازيل تسير بواسطة طريق العمل العبودي، والاحتلال الاستعماري لجزيرة شخص آخر.
وهكذا، بينما أنا أفهم أنه بالنسبة للاقتصاديين لم يكن اقتصاد روبنسون كروزو مقصوداً ليكون أميناً للتأثير الأوسع لروبنسون كروزو كرواية ـ وهذا الاستخدام لرواية ديفو معقول تماماً ـ ينبغي كذلك أن نضع في اعتبارنا ما نفتقده حين ننقب روايات لدقائق، دروس موضوعية لمستوى السطح (أو، في هذه الحالة، حين نقسمها عشوائياً إلى روايات "أصيلة" و "تجارية" دون استحضار الخبرة الأدبية).
العلماء الذين يهتمون بالأدب ينبغي أن يضعوا في اعتبارهم ما يسميه الاقتصاديون "تكلفة الفرصة البديلة" ـ أي المكاسب المحتملة التي نخسرها من خلال اختيار أحد البدائل عن غيره ـ في محاولة استنتاج دروس متعددة التخصصات من الرواية دون إيلاء الكثير من الاهتمام لخبراء الأدب أو الكتّاب، أو للأدب الروائي بحد ذاته. التعاون الحقيقي بين خبراء الأدب، الكتّاب، والعلماء يمكنه في الواقع ان يحسّن من الدقة التي يدرس بها العلماء الروايات، ويمنح علماء أساتذة الأدب ومستمعينا في الصفوف الدراسية وغيرهم طرقاً جديدة لفهم الأدب وتأثيره على العالم.
من الناحية العملية، هذا يعني أنه حينما تتطلب العملية العلمية تعريفاً مختزلاً ـ مثل رواية "رصينة" مقابل "تجارية" ـ يتوجب على العلماء التعاون مع الأدباء وأساتذة الأدب لتكوين تعريفات أكثر دقة وقابلة للدفاع عنها تاريخياً. لا يكفي الاعتماد على انطباعات المشاركين في دراسة حول ما إذا كان المؤلف "رصيناً" أم "تجارياً"؛ وفي الواقع أن مثل هذه الفئات قد تخبرنا أقل من غيرها عن خصائص الرواية ـ هيكلها السردي، معالجتها للشخصية، نزوعها إلى الواقعية الأدبية ـ التي يريد العلماء رصفها في دراساتهم. ينبغي على الباحثين العلماء القراءة والاستشهاد بالباحثين الأدبيين عند دراستهم للأدب، وأن تكون المشاريع المتعددة التخصصات تعاضدية. هذا هو طريق التقدم بالنسبة للأدب والعلم على حد
سواء.
• اقتباس من جوانا بورك، قصة الألم (منشورات جامعة أوكسفورد، 2014)، ص 13.
عن The Ploughshares Blog