«المواطنة»..جذراً وفكراً

ثقافة 2019/09/16
...

نصير فليح
 
هل يعرف مجتمعنا والمجتمعات العربية حقاً مفهوم “المواطنة”؟ وإذا كان يعرفها فبأي معنى؟ وما هو معناها أصلاً وجذر مفهومها وشروطها؟ وهل تتغير بتغير المجتمعات؟
عالمنا العربي والحداثة:
عندما تم تقسيم العالم العربي الى الصيغة التي هو عليها الآن، ظهرت حدود الدول الحالية بعد ان كانت مندمجة او مختلفة التقسيمات تحت مظلة حكم من نوع آخر تماما، هو الدولة العثمانية الحاكمة باسم “الخلافة الاسلامية” لقرون. حيث كانت أسئلة شرعية “الخلافة” وعدالة ولي الأمر وعلاقة “الراعي” بالرعية هي المفاهيم الأساسية في تحديد الانتماء السياسي والاجتماعي “للأمة”، رغم ان امتيازات القومية التركية على القوميات الاخرى ظلت حاضرة بدرجات متفاوتة.
ومع تقسيم عالمنا العربي بين فرنسا وبريطانيا في الحرب العالمية الاولى، ظهرت ملامح واقع جديد، حيث بدأت مفاهيم جديدة بشكلها الجنيني، مفاهيم لم تكن معروفة او فاعلة سابقاً: “الوطن”، “المواطنة”، “الوطني” كمقابل أو نقيض للأجنبي او المستعمر، وكل ذلك في مرحلة جديدة من انخراط العالم العربي في العصر الحديث. لكن هذا المجتمع لم يعرف هذه المفاهيم نتيجة تطورات داخلية تدريجية. فهو مجتمع لا يزال راسخا في انتماءات من نوع مختلف، محلية وقبلية وإثنية وطائفية، ومعروف الصراع الطويل بين القبائل والحكومات المركزية على امتداد التاريخ العثماني.
وبعد مرور قرن من الزمان على تلك الأيام، ومرور العالم العربي ودوله ومجتمعات بمراحل الاستعمار والانتداب ثم حركات التحرر ثم الثورات والانقلابات التي رسخت استقلالية بلدانه من جهة، وكرست دكتاتوريات “وطنية” متسلطة من جهة اخرى (مرورا بفترات المد اليساري والقومي ثم صعود الاسلام السياسي) ما الذي تركه كل ذلك على مفهوم ومعنى “المواطنة” في عالمنا العربي؟
 
ولكن..ما “المواطنة” أصلاً؟
“المواطنة” مفهوم يشير الى الحقوق والواجبات لاعضاء أمة-دولة nation-state أو مدينة city. ولدى الإغريق القدامى كانت “المواطنة” محصورة بالرجال “الاحرار” الذين كان لهم حق المشاركة في المناظرت السياسية في ديمقراطية أثينا، لأنهم ساهموا في الدعم المباشرة للدولة-المدينة التي ينتمون اليها، وغالبا عبر أداء الخدمة العسكرية.لكن هذا المفهوم تطور وتوسع بشكل كبير مع تغيرات الحداثة والدمقراطة في الغرب في القرون الماضية. وبالنسبة لعالم الاجتماع تالكوت بارسنز Talcott Parsons (1902-1979) فإن نمو “المواطنة” مقياس لحركة التحديث في المجتمع، لانها أصلاً مرتبطة بقيم “الكلانية” universalism (بمعنى شموليتها) والإنجاز achievement.
 
علم الاجتماع والمواطنة
النظريات الرئيسة في علم الاجتماع عن “المواطنة” مدينة كثيرا لعالم الاجتماع ت. هـ. مارشال T.H.Marshall (1893-1981) الذي عرّف المواطنة باعتبارها “الحالة التي يتمتع بها الشخص عندما يكون عضوا كاملا في المجتمع”. ويمكن تمييز ثلاثة مجالات رئيسة فيها: مدنية، سياسية، واجتماعية. الاولى تتصل بالحقوق المدنية الضرورية للحريات الفردية وتتجسد في المؤسسات القانونية. أما المواطنة السياسية فتضمن حق المشاركة في ممارسة السلطة السياسية في المجتمع، عبر حق التصويت او حق إشغال مناصب سياسية. بينما تشير المواطنة الاجتماعية الى حق المشاركة في معايير ملائمة للمعيشة، مثل الاستفادة من الخير والازدهار العام والمؤسسات والأنظمة التربوية والتعليمية وما الى ذلك.وقد رأى مارشال ان هناك توترا او تناقضا دائما بين المواطنة وعمليات السوق الرأسمالي. ذلك أن الرأسمالية تتضمن حتما اللامساواة والتباينات بين الطبقات الاجتماعية، بينما تتضمن المواطنة معنى اعادة توزيع الثروة بسبب الحقوق التي يتشارك فيها الجميع بالتساوي.
 
المواطنة والعولمة
في عالمنا المعاصر، عالم العولمة بكل متغيراتها العميقة، بات علماء الاجتماع يذهبون الى ما وراء النظريات المتعارفة عن المواطنة التي تربطها بالديمقراطية او الليبرالية أو المجتمع المدني، الى استشكاف العلاقات المتغيرة بين الافراد والجماعات والدول، من قبيل التساؤل عما اذا كانت العولمة ستحل محل المواطنة المرتبطة بالدولة، وظهور تصورات كلية فعلية عن مفاهيم “حقوق الانسان” في عالم باتت فيه الدولة-الامة خاضعة بازدياد الى تاثيرات ونفوذ المؤسسات العابرة للقوميات والدول.
 
عود على بدء
ان نظرة سريعة الى واقع عالمنا العربي، بما فيه مجتمعنا العراقي، تبين مدى المؤثرات العديدة والمتشعبة التي تتنازع مفهوم “المواطنة” وتعيقه. فمجتمعاتنا مشدودة بقوة الى انتماءاتها المحلية والقبلية والطائفية (واذا طبقنا جوانب المواطنة الثلاثة، المدني والسياسي والاجتماعي، سنجد ان الانتماء الى القبيلة يتضمن هذه الحالات التي كان يفترض ان تقترن بالدولة لا القبيلة). ومجتمعاتنا العربية نفسها تتباين في ما بينها في درجة تماسكها الاثني والديني والقبلي والطائفي، وهكذا نجد ان مفهوم “المواطنة” اضعف في المجتمعات الاكثر تشظيا وتمزقا. 
ان الحكومات التي تعاقبت على عالما العربي خلال المئة عام الماضية، فشلت فشلا ذريعا في ترسيخ مفهوم المواطنة في نفس ووعي الانسان العربي، الذي نادرا ما شعر انه مواطن فعلا في وطن ومجتمع، وله حقوق وواجبات محددة ملموسة وفعلية. وهكذا نلاحظ مع انهيار الدكتاتوريات التي ظلت تحكم طويلا بصيغ الاستبداد (والمحاباة لاعوانها، وامتهان كرامة الانسان، والضروف المعيشية الصعبة) فان ما ظهر الى السطح خزين طويل من المشاكل التي ظلت متراكمة دونما حلول، لتأخذ اشكالا شتى من “المحاصصات” لملء فراغ السلطات الاستبدادية. 
مع ذلك، فان عمق المخاضات التي شهدها ولايزال عالمنا العربي بعد ما عرف باسم “الربيع العربي”، يدل على حركة تجري هذه المرة في عمق المجتمعات العربية لا في رؤوس اهرامها فقط، تفتح أفقا جديدة لتاسيس جديد لمفهوم المواطنة، بالاقتران مع مفاهيم الديمقراطية وحكم القانون وحرية التعبير والمشاركة السياسية الفاعلة، او بانفتاحها على افق انساني شامل جديد، رغم ان ذلك يبدو طريقا طويلا مكتظا بعقبات عديدة ومعقدة.