التاريخ مقلوباً على يديه في {المنعطف»

الصفحة الاخيرة 2019/09/17
...

صادق الصائغ
يوم فاتحني صديقي المخرج يوسف جرجيس حمد بفكرة إخراج فيلم عراقي جديد بتمويل خاص، كنت، مع تقديري لكل جهد صرف في هذا المجال، على اعتقاد بأنّ فرص النجاح في تنكب هذا المركب الصعب شبه معدومة، لأنّ عوامل الصدفة والهوى الشخصي والخطابيّة، عدا غياب البنية التحتيّة، كانت الأساس الذي استندت إليه، وكان نتاجها الذي قارب مئة فيلم بقطاعيها الخاص والعام، لم يرسم في حياتنا الثقافية، إلّا هوى عابراً اذا قيس بالأثر الذي تركته الأجناس التعبيرية الأخرى. 
 
غواية خمسة أصوات
وبالنتيجة، فإنّ ما يصرُّ البعض على حسبانه منجزاً وطنيّاً لا يمكن تأكيده إلّا على أساس التساهل، اذا لم يكن ضرباً من التعصّب البريء. وقد حرصت لأيام تلت لقاءاتنا الأولى، الا أستعجل في قول كلمة (نعم)، فأنا، رغم، حبي الكبير للسينما ورغبتي في سبر اسرارها، فإنّ تقديري لمعرفتي بها لم تكن راسخة، فخطوط تلقيها الحر اعتمدت بشكل اساسي، على المشاهدة والقراءة وممارسة الكتابة النقدية في صحف عدة، منها طريق الشعب والف باء، يضاف الى ذلك سنة دراسية لم تكتمل في (FAM)، كلية السينما في براغ، أي أنّ ارتباطي بها كحرفة لم يكن موصولاً، وكنت بالتأكيد سأسارع في قول هذه النعم لو عرض الأمر عليَّ في مناسبة وظروف أخرى، لكني بالفعل بعد جدل معمّق، وابتسامة جميلة لا تعرف الغضب والتي عُرف بها يوسف، وكوني زميلاً مستجداً له يوم كان هو مديرا للتلفزيون وأنا مذيعاً وعضوا في قسم المنوعات والتمثيليات في إذاعة بغداد، وأيضاً بعد اعادة قراءتي للرواية المقترحة  (خمسة أصوات لكاتبها الصديق الراحل غائب طعمة فرمان) وتساؤل متهكم وضع فيه يوسف النقاط على الحروف ومفاده: ( وأين هي المعرفة الراسخة والاحتراف الذي تتحدث عنه في هذا البلد يا صديقي؟)، أقول بعد كل هذا وذاك  متورطاً بفكرة قديمة ارتبطت بما يحتل ذاكرتي من أهواء عن سينما الواقعية الإيطالية، أعلنت موافقتي، وكبداية متفائلة، اقترحت إطلاق اسم (المنعطف) كمركز للفيلم المأمول، وبموجبه يتم  إنفاذ ثلاثة محاور الى صلب معمار النص الروائي لتشكل لاحقاً جوهره الأبرز، أولها إعطاء مساحة متوازنة لقضية المرأة العراقية، متمثلة في وضعها كممتلك للرجل وما ينتظرها من عواقب اجتماعية تصل في بعض الحيان حدَّ القتل المباح، من  ثيمة العسف المجاني تتفرّع مظلوميات المجتمع ككل متجسّدة بمصائر ثلاث شخصيات رئيسة، هي الشاعر الرومانسي الحالم الذي أطلق على نفسه اسم “رجل الضباب”، والذي من اجل تجنّب مضايقات السلطة أشاع عن نفسه أنّه وجودي من اتباع سارتر وتغيرت حياته بعد أن أحب امرأة اضطرتها الظروف الى ان تبيع جسدها في مبغى معروف يسمى (الكليجية)، وفي هذا المكان تتطور علاقته بها الى عشق رومانسي رقيق ثم الى زواج مناقض للعجينة الدامية للمجتمع الذي يعيش فيه، فستحاصر الفتاة  مآلها التراجيدي، إذ يظفر بها أفراد عشيرتها في ساحة المبغى  وسيشهد الشاعر عملية طعنها بالتداول بالسكاكين ويتوزع دمها أفراد العشيرة. ويأتي رسم مصير فتاة المبغى كنقيض لمصير فتاة المصرف التي أغرت زميلها بعلاقة زواج ثم اصبحت، تحت إغراء المال، عشيقة لمدير المصرف الذي تعمل فيه.
 
مشهد حي
المحور الآخر يطول إضراب عمال شركة سكائر المختار (شركة سكائر المختار وتقع  في  محلة السنك) والذي ادى الى مصرع  احد العمال اثناء اقتحامه الحصار الذي ضربته الشرطة على المعتصمين. 
لقد صادف أنّي كنت حاضراً هذا الإضراب، لذا كان رسمي لتفاصيله واحداثه شبه توثيقي، خاصة مشهد اطلاق المناشير من سطح البناية وإطلاق الرصاص على الأهالي الذين كسروا نطاق الحصار ونجاح بعضهم في إيصال الطعام بواسطة زنابيل مربوطة بحبال، وكان العمال اثناء ذلك قد تجمهروا على السطوح لتسلّم الزنابيل. ويتصاعد المشهد إثر سقوط شاب برصاص الشرطة كان بالصدفة يعمل فراشاً في الجريدة التي يعمل بها الشاعر نفسه. 
لقد حرصت على التأكيد على هذه المحاور بوصفها قراءة مضافة تعمّق دلالات بعدها الاجتماعي والسياسي، وتطابق في الوقت نفسه واقعها اليومي، دون ان تتخلى عن الخطوط المتشابكة التي رسمها غائب بمهارة في نص الرواية الأصلي والتي شكلت هنا، لضرورات موضوعية وفنية، مادة خلفيّة في معمارها الفني الجديد. 
وكان التأكيد على المكان كقاع أسفل لمدينة بغداد والذي حرصنا، يوسف وأنا، على تحديد مواقعه مسبقاً، هو البعد الآخر المساهم برسم صورة للقسوة وعدم الرحمة، وفي الوقت نفسه للعاطفة والحنين والعطاء وحتى الضحك والتهكّم واليأس الذي يتنفّسه زمن يتيم.
بعد مرور ما يقرب الشهرين تم إغلاق النقاش المتواصل واليومي مع المخرج يوسف جرجيس حمد وتمت المصادقة عليه كسيناريو نهائي من قبل غائب الذي رافق التواصل معنا تلفونياً، بعد ان اقتنع بأنّ التغيير الحاصل اقتضته الفروقات الفنية  بين النص المكتوب بكلمات وبين السينما كفن بصري، ليرفع بعدئذ  للرقابة، اما بقية القصة فقد كانت اشبه بفيلم داخل فيلم، فقد جاءنا بها منتج الفيلم على شكل تلميح أمني يُفيد بعدم مراعاة قواعد الوضع، وحسن النيّة، ووجوب اضافة مشهد تأميم النفط مفتتحاً للفيلم، رغم ان احداثه تجري في الخمسينات أي قبل اعلان التأميم، فضلا عن اقتراح آخر - اقتراح ؟ - بحذف مشاهد أساسية تشكل السداة واللحمة.
من حديثه المتواطئ فهمنا بأنّه أوصل السيناريو سراً ودون معرفة منا الى يد مخرج صديق وافق على المحذوفات والمفتتح، ولم نسمع منه حتى مجرد نأمة تفيد الشرح أو دفع الحرج أو 
الاعتذار.