في البدء علينا أن ندرك بأنّ السينما حققت نضجا وصل في أحيان كثيرة إلى الكمال. فقد تجاوزت السينما بإمكانياتها وقدراتها التعبيرية العديد من التصورات في كل المجالات الإبداعية والتقنية والتطور العاصف في التكنولوجيا.
أقول هذا لأنّنا كثيرا ما نستخدم ما قد تآكل ومضى من مسيرة السينما بشكل عام ومسيرة الفيلم الروائي العراقي القصير ما بعد 2003 حصرا، وأشير هنا إلى أسلوبيّات السرد والخطاب السينمائي وحتى في الأساليب التصويرية والمونتاجية في المسيرة العاصفة والتحولات المذهلة للسينما العالمية التي بدأت منذ ثمانينيات القرن العشرين وظهر جليا في ما يعرف بـ (سينما العروض الجذابة).
محاولة أوليَّة
يتقدم فيلم (من سيهذي أيضا ؟) سيناريو وتصوير وإخراج ياسر الأعسم وتمثيل مهند بربن، بلقطة الافتتاح وهي تعبير تنويعي جميل عن حالة انتظار متعبة، متهالكة، كما هي المصطبة الخشبية العتيقة التي أنهكتها سنين الانتظار وهي شاخصة أمام نهر يكاد يكون ثابتا في مجراه، وهو انعكاس لواقع الشخصية المركزية في الفيلم، فلا شيء هناك، حيث المصطبة، غير ظلال باهتة لأغصان تتأرجح لتنقلنا إلى ظروف رسائل بلا عناوين، بلا أسماء، بلا طوابع.. إنّ كلّ شيء عائم .. كلّ شيء عام وشامل. وهذا اليقين في الفهم يؤكّده الحوار الداخلي (وهو استخدام كلي للفيلم في تعامله مع الحوار)، إذ تقول الشخصية وهي تكتب قصيدتها: (عندما تدخل على بقايا إنسان.. تتنفّس بصعوبة .. تجلس بجوار أمنيته الوحيدة ..). هكذا كان مشهد الافتتاح وكذلك المشهد الختامي الذي خضع لرموز خارج نطاق البنية الدرامية ليؤكد اغتيال الكلمة الصادقة والفكر التنويري.
إنّ اعتماد الفيلم على هكذا حوار جاء طبقا للموضوع المنغلق الذي اعتمده الفيلم في حكايته. بمعنى أنّ هناك تداخلا وثيقا يقوم بصهر العالم الخارجي ــ الحياة العامة ــ في بوتقة الذات، ولهذا فإنّ الشخصية (الشاعر) تنتمي لعالمها الخاص ولشعرها أكثر من أي انتماء آخر. وهذا ما أغلق الحكاية القصصية التي جاءت على شكل قصة دائرية مغلقة بدأت من حيث انتهت وانتهت من حيث بدأت، وهذا أقرب إلى السرد الروائي منه إلى السرد الصوري.
ضوء وظل
يتضمن الفيلم اشتغالا سينمائيا يميل في غالبه إلى الجانب الفكري، فاستخدام الآوت فوكس في مشهد ما بعد نهوض الشاعر من المصطبة جاء تأكيدا على ضياع الملامح، وعلى فقدان حالة التوازن التي تعانيها الشخصية. لقد قدم هذا الخطاب الصوري المهم بلقطة عامة فقدت بريق ألوانها، فبدت كلقطة فيلم أبيض واسود.
وواضح أنّ هذا التوجه صاحب اشتغال المخرج في عدد من المشاهد (كتابة القصيدة، مشهد المستشفى ..) الاشتغال هنا يعمل على خلق تجانس ما بين شعريّة الصورة وما بين مضمون القصيدة. وهو تجانس جميل يوحي بادراك لأهمية الصورة التي يتم بناؤها وعلى ما تفرزه الكلمة من معنى ذهني مستخدما على الدوام قدرات الضوء والظل في تجسيد المعاني والمشاعر الإنسانية الدفينة. هنا يتوجب أن أشير إلى أن جمالية اللقطة ليس هي فقط التي تحدد الخطاب والمعنى، بل هناك عناصر لغوية أخرى تسهم في دعم وتعميق هذا المعنى. ولهذا فإنّ حالة التضاد ما بين لقطة الآوت فوكس ولقطة عبور الجسر، وهي لقطة طويلة نسبينا، لم تأكّد وظيفتها لا في البناء الدرامي ولا في الخطاب الفكري كأنْ تكون عبورا لضفة جديدة.
ضرورات السرد
لم ينشغل ياسر كثيرا بالقصة السينمائية، بقدر ما كان يهتم بالسرد الصوري معتمدا على التكوين، الإضاءة، حركة الكاميرا، أحجام اللقطات والزوايا المثيرة ..) والتي غالبا ما تكون العنصر الفعال في الفيلم (مشهد التدخين، مشهد سيارة الأجرة، مشهد المستشفى ..) وهنا تمَّ كسر الزمن الميقاتي للفيلم، فنحن لا نعرف
الصباح من المساء ولا نعرف كم هو زمن الأحداث. وجاء السرد الصوري ليخفي كلّ شيء. لذا جاء الزمن معتمدا على ما يمكن وصفه متابعات الشخصية، وهي شخصية شاعر اعتدنا عليها في الكثير من الأفلام. إلّا أنّ هذا لم يمنع تدفق قوة الرؤية السينمائية ومتانة الفكرة الإنسانية التي جاءت على شكل وثيقة صادمة أخذتنا إلى ما هو أكثر حيوية وتأثيرا في الحكي السينمائي متجسدا بضحايا الدمار والخراب الذي حلَّ
بالوطن.
لقد أكد الممثل مهند بربن قدرته الإيمائية واحترافيته في معرفة أسرار العمل الصوري الذي جسّده بوجه يفيض بالتعبير الجميل مصحوبا بتلقائية وانسيابية تعكس موهبته في التفاعل مع الحدث ومع متطلبات التمثيل السينمائي إلّا ما ندر من التعبير الفائض خاصة في مشهد النعش.