أراد كريستيان بونو أن يحدّثني عمّا أسماه في الغرب بـ«الفراغ المعنوي» على نحو تعززه الأرقام والشهادات، وما يكتنفها من أسماء وعلامات. فقلت له دعنا ننطلق من تجربتك الخاصة، لأنك تحديداً مثالٌ انموذجي للحالة التي تودّ أن تحدّثنا عنها.
أوجز رحلته بقلق اكتشفه مبكراً في وجوده، وقد أمسى ذاك القلق محرّكاً له يدفعه صوب البحث والتنقيب عن شيء، لم يكن قادراً على تحديده على وجه الدقة. عندما انتهى من دراسته الابتدائية والثانوية، تحوّل إلى الدراسة الجامعية، بيد أنه سرعان ما تركها لأنها بدت أمامه بدون جدوى، لا تشبع تطلعه للمجهول الذي يبحث عنه ولا تقرّبه من هدف.
ذكر لي صراحة أنه تحوّل بين الاتجاهات والمدارس الشرقية الآتية أساساً عبر البوذية والهندوكية وغيرهما من ديانات الشرق، عله يعثر من خلالها على ضالته، بيد أن شيئاً من المواقع الجديدة لم يروِ ظمأه، فسقط بهوّة لا تخضع فيها الحياة لأية ضابطة من الهيبز وغيره. لكن الحياة في هذا الوسط لم تقنعه ووضعته كما الديانات الهندية التي انتمى لها، على حافة الطريق المسدود. رأى لحظة مراجعة أن تطلعات نفسه وأشواق روحه هما أثمن من أن يضيّعهما في الهيبز، كما أخذت قدراته الفكرية تقوده للبحث عن مخرج بدا له أكثر جدوى، وإن احتاج إلى جهد أكبر، خاصةً وإن الفلسفة الهندية والبوذية كانتا بمنزلة وسيط فعّال لتنمية قابليته الفكرية، وتأهيل عقله لتمرين أعقد من بين الخيارات المطروحة أمامه.
لقد قرّر أن يفتتح لعقله نافذة على الفلسفة، لكن أيّ فلسفة وقد جرّب الأديان الهندية دون جدوى؟ لقد حاول أن يطلّ على فلسفة الإسلام من خلال باحث فرنسي مسلم هو رينيه غنون الذي توفي سنة 1951م بعد أن ترك مجموعة من الكتابات عن الإسلام بالفرنسية.
أردت منه أن يقرأ لي باختصار المدلول الحضاري لهذا الواقع، بحيث يقدّم تفسيراً يبدو مقنعاً ويتضمن في الوقت نفسه عناصر تسمح بالنفوذ إلى حلول مقبولة. أوضح أن الحضارة في فهمه الخاص تتمثّل في شخص مثالي؛ أو هكذا تعلم من انتمائه إلى الإسلام، والحضارة الغربية برأيه تفتقد من هذا المنظور للدالة والرمز، وهي من ثمّ حضارة تعيش أزمة معيار، إذ الكلّ فيها موكل إلى نفسه.
الحلّ برأيه أن يخرج الإنسان الغربي من هذا الشعور المفرط الذي يعيشه، الموغل بالفردية والذاتية، وأن يغادر طوق النفس، ويحسّ بالأمان في لجوئه إلى معيار، وإلى دالة ورمز كبير، له القدرة على منح السكينة والطمأنينة لجميع أفراد هذه الحضارة.
حصل هذا الحوار مع كريستيان بونو قبل ثلاثة عقود وسط صعوبات شاقة، فقد كان يومها لا يعرف العربية جيداً، وأنا لا نصيب لي من الفرنسية، مع ذلك كان صبرنا على بعض والشوق إلى المعرفة هو ما ذلل لنا الصعاب.
تابعته بعد ذلك في بعض محاوراته وشيء من أعماله العرفانية التي تفرّغ لها، وهو يتنقّل بين مدينة مشهد الإيرانية وباريس، إلى أن فوجئت غرة المحرم هذا العام بخبر وفاة يحيى بونو (اسمه بعد الإسلام) في ساحل العاج، ليغادر وهو يترك لنا قصة فيها الكثير من الاعتبار!