التفاؤل

الصفحة الاخيرة 2019/10/01
...

حسن العاني 
 
تخطى السبعين من عمره، وهو على ما هو عليه منذ تعرفتُ عليه قبل 35 سنة تقريباً، لا يفارق الكتاب يده حتى عندما يأتي الى المقهى، اما الذي لم يتغير في الرجل فهو ولعه الشديد الذي يقرب من الهوس بقراءة (الأمثال والاقوال والحكم- بكسر الحاء) وحفظها وترديدها في كلامه، وتوظيفها توظيفاً جميلاً، وهذا الرجل (ابو الحارث) الذي دخل دائرة أصدقائي من اوسع ابوابها، ويحتفظ في مكتبته بأكثر من (300) كتاب تراثي وحديث، تتناول جميعها الموضوع الوحيد الذي استأثر على ولعه حتى بلغ به الهوس الى الحد الذي حفظ عن ظهر قلب مئات الامثال (الفصيحة والعامية) مثلما عرف من هو قائلها واسباب قولها.
ومعلوم إن تلك الاقوال والامثال، فيها ما ينتمي الى عصور ما قبل الاسلام، وفيها ما هو مستل من القرآن الكريم (أي الآيات التي جرت مجرى المثل) او من الشعر، وكثير منها ينتسب الى الامثال الشعبية قديمها وحديثها، وبعضها مسموع متداول وبعضها الآخر غريب الحكاية او غير معروف ولا متداول من ذلك [جوّعْ كلبكَ يأكلك] ومن باب الاستشهاد لا الحصر نأتي على بعضها (لغاية في نفس يعقوب/ ولكن ليطمئن قلبي/ عاد بخفي حنين/ أنجز حرٌّ ما وعد/ سبق السيف العذل/ أياك أعني واسمعي يا جارة/ شكول شكول ورد الباجلة/ خوجة علي ملا علي/ يركض والعشا خباز/ بعد عليّ شعيط ومعيط وجرار الخيط.. الخ).
 والأهم من هذه التفاصيل، ان ابا الحارث قد بلغ مرحلةً من التعامل مع الاقوال لم يبلغها احد من قبل، فقد كان  يعيش القول او المثل، ويجسده ويتقمصه، وهذا نوع من الجنون غير المؤذي، يحضرني الآن أحد مواقفه التي لا تحصى ولا تعد... انه حيث انعقد لنا مجلس او تحقق لقاء نحن مجموعة اصدقائه، تأخذه الحماسة وهو يشن هجوماً عنيفاً على الطبقة السياسية والحكومة والبرلمان، بلغة انشائية تفتقر الى الموضوعية والى الدلائل حول تردي الخدمات والرواتب والبطالة الى آخر قائمة الاتهامات الطويلة التي اكتشفت انه يسمعها عبر الحوارات او المناظرات التي تبثها الفضائيات من دون ان يراجعها او يدققها، بل احياناً حتى من دون ان يفقه اغراضها ومضامينها... ولم يحصل ان اعرناه اهتمامنا، ليس فقط لكوننا نعرف سذاجته الفكرية، بل قبل ذلك لاننا نعرف طبيعة هذا الرجل الطيب البسيط المسالم، فهو يقف اليوم (بالضد) تماماً وغداً (مع) تماماً، على الرغم من ان القضية واحدة... وهذا ما حصل فعلاً: فمن هجومه العنيف على الطبقة السياسية والحكومة والبرلمان  بسبب الخدمات و...و.. ونسي ما قاله في بداية الجلسة، واذا به يتغنى بمنجزات الحكومة لأنها قررت بناء نصف مليون وحدة سكنية في الرصافة ومثلها في الكرخ مع اربعة ملايين وحدة في عموم المحافظات ولأنها قررت زيادة الرواتب بنسبة تصل الى 20 بالمئة، ولأنها ستجعل السلاح بيد الدولة وتشن حرباً لا ترحم على رؤوس الفساد، وسوف تعلن عن إطلاق مليوني درجة وظيفية في غضون الاشهر القليلة المقبلة، واوجع رؤوسنا بقائمة منجزات لا تقدر على النهوض بها اربع حكومات، وكنا نعرف انه يردد ما ترسخ في ذهنه من مناظرات فضائية، ومع ذلك سأله أحدنا (هاي شنو ابو الحارث ، قبل ساعتين كنت تتحدث على تردي الخدمات...الآن تتحدث عن المنجزات العظيمة) ردّ عليه: يا اخي ليش هذا التشاؤم على طول.. انت ما سامع بالقول المأثور : تفاءلوا بالخير تجدوه؟! ومنذ ذلك الحين نحن نتفاءل ونتفاءل و(نريد نشوف تاليها)!!