كرياليسون

ثقافة 2019/10/13
...

زهير بردى
 
 
حينما أعجنُ البختَ بالمايونيز والعتمة وثيابِ المراهقات الثقيلة وأجنحة العصافير ولافتاتِ النوافذ ورائحةِ الموتى في المقابر.
وأكون أكثر حرارةً من الثلج،  أقلّ ساقاً من القمر، وأتقيّأ عزلتي جمعَ غزالاتٍ في قفصِ تفكيري. أقضي مئةَ عامٍ من الظلام. أبكي على ديناصور كان يكاتبني بلغةِ نملٍ صغير يقوى على ثقلِ شمبازي. 
لا أستطيع أن أغيّر فرصاً كثيرة سيّئة. تطلبُ النزولَ في المحطّة الأخيرة من كلِّ مكان، وأوفّرَ لسهرةِ من يحيا وينتهزُ لحظة أن يموت،  امرأته تزقزقُ فوق أسلاك الليمون. وأضعُ المعبدَ المبارك في ثقبِ إبرة تحبُّ إنجابَ أكثر من تمثالٍ صغير، وتردّد المواعظَ والأسباب بموجب ذلك،  تقولُ لي الأيامُ وصلتَ متأخراً، فالحرافيش ناموا في صحنِ كوشري فوق السطوح،  وكان محفوظ يحفظُ النيلَ في أكياسِ دموع قبل أن يقرأ شعراً للوركا قربَ حانةٍ موصدة في ركنٍ منعزل في المعادي دخولاً من ميدانِ التحرير. 
وماتَ شابلن من الضحكِ على فارٍ يرقصُ في جوفِ ملعقة في ماعونِ زلاطة رامبو فوق سفينةٍ من زجاجٍ مكسورٍ. 
ما كان سركون بولص لوحده،  وما تخاصمَ مع فاضل العزاوي
قرب الشجرة الشرقية حين وصلَ في متنِ قارب أور. 
وما عمل في التصويرِ الفوتوغرافي في حدائقِ كورت سلوخ
وبالتأكيد كان محمود درويش يغسلُ يديه في طينِ خاوة بغداد
ويتمّددُ فوق كرسيٍّ من صبّار بري،  وينتظرُ التاسعَ بعد صيف. 
ورقمَ بطاقة تموين وكرفان من خشبِ النخلِ وطحيناً ملفوفاً بزعترٍ وجبنة بلدي،  وبيدينِ فارغتين يدسُّ حياتَه في غرفةٍ صغيرة،
من هياكل لمنازل كانت في بيت لحم. وشاكر سيفو يتوّهم أنّه مات قبلَ وهمين من نطف ذرفَها فوقَ طينٍ طري،  وصديقي الشاعر حسين عبداللطيف ينظرُ إلى قدمي قبره الذي سيموتُ أيضاً مصاباً
بالسكّري. 
 
*****
حين دخلتُ جهنّم خجلتُ كثيراً. لم يكن أحد بانتظاري , ولم أمنح فرصةً لأتكلّم. أيكفي هذا أنْ أقضي أيّاماً جميلة ؟ أكرّرُ الحياةَ هنا. 
سأجعلُ غرفةَ نومي مفتوحة لأكون أكثر غربة، وأبتسم لحركات شارلي شابلن , وأتعجب من وشمٍ شامة قبيحة تقلّل نسياني. 
أضحكُ كقردٍ لانتظارٍ ميّتٍ تحت مظلّة.  يحطبُ الماءَ قرب شاشةٍ صغيرة للتسلية. يرشُّ بحياء منه إعلانات حانة. أحتاج ورقةَ ترخيص لأستخدمَ الوقت،  وإلى كم سنتمترٍ من حلمةِ امرأة لا تحسن رغبتها. تصرخُ من البريقِ ثقوبٌ كزبيب،  ودون خجلٍ
تغسلُ يابستي بملحٍ يخرج من سيرتي المتمرّدة. 
 
*****
ولدتُ متأخّراً. كنتُ فاقداً لملابس أضعها في مكانِ ورقةِ التوت. دودة القز في شخصي تتطلّعُ إلى أطفال. حدثَ يومَ أمس زارتني أيام غير قابلة للغسل. أفقدُ البصرَ في الطقسِ الحار. 
أضعُ الثلجَ في الأيس كريم،  فأسخرُ من أحد يذهب لجلبِ نفسي. 
الليلُ فارغٌ من التماثيل. شخيري بطعم البرتقال. أسقطُ من أرجوحة تتدحرجُ في جسدي،  وتسردُ نكتةً قديمة وتعرّي ثوبي  الأبيض. 
لأيّ سبب،  الضوءُ في هذا الوقت المتأخّر من اليوم،  يحرّكُ حواجبي ببضعةِ كيلومترات من عجب ,أقدّم التعازي إلى لعبٍ مسليّة ,تحتفي بقدومي بصلاة ميت ,ودودة القز في شخصي
كلّ عشر جنازات توقظني فأسقطُ بإتقانٍ من خيطِ نسيان أبيض
يشمّني كغجريّة. 
 
*****
اليومَ رجعتُ من مقبرةٍ ضجراً،  قررّت ألا أكلّم أحداً, حماقة ظلٍّ يمشي خلفي. أصغي إليه يكلّمني. أدخلُ غرفتي أتفرّقُ بيني وبينه،  لأنه يشبهني كثيراً مرّاتٍ يقومُ قبلي, يديرُ التلفزيون،  أراهُ في عمقِ المشهد يقودُ متمرّداً حديثاً يشبهُ كلماتٍ متقاطعةٍ فشل في حلّها. يبتسمُ برموشه بإغواءٍ وأنا في الحديقةِ،  أشمّ وروده، أراهُ تحت سريرِ الخضرةِ يقهقهُ. رجعتُ إلى المقبرة لعلّه يتركني وكلّما جاءَ تابوتٌ جديد يشتاقُ إليَّ ويلوّحُ لي مبتسماً. 
*****
أجلسُ فوق كرسي بدائي من مخلّفاتِ حربٍ شاهدتها في أفلام دمى. ما متُّ حينها وكان بيدي تمثالٌ من طين. كان أبي قبل سلالتين من هواءٍ بارد يخلطُ الظلام بطاسةٍ حمراء غير صالحة للاستحمام. بعبثِ ميّت ما زال فمهُ حيّاً يتكلّمُ من يوم استدعاء فكرةٍ سالمة من سطورٍ, تغسلُ كلامها وتغيّرُ أماكنه وتمسحهُ أحياناً بماءٍ فاتر. تمشّط شعر هيكلٍ طاعن بحملِ عظامه في البردِ. أيقونة لتأمّل العالم وشنِّ الحبَّ عليه
 
*****
رؤيا باسمي تنظرُ لي بعين نسيان،  وترغب أن أحيا وألا أتلكّأ في حيرتي. محمولاً بآثار تفكير كان لي ! قلت إنَّ الشمعَ صلصال يسيل بخيطِ أشلاء وشمّه رماد. ليل يسيرُ في كرّاستي إلى سطرِ الوردِ ومن عنب يهوي من قبو أفق. يحكُّ خلوةَ كتابة تحتفي بالوهم المبلول برغبةِ جنيّة تتشرّدُ خلف دبابيس السرير, نسيجٌ حلو من طعم حوّاء مالحة من شدّة البرد.  تخلعُ ثيابَ الوردِ من نقشات الجسد،  وتغسلُ الضوءَ بعيونِ حمام يتمهّل،  ولا يضجر من فضّة الموسيقى, يسمعها بانتشاء ماءِ البحر في شفتي كهفٍ عتيق, إنّه منديلُ يوسف, يعتذرُ دائماً لآدم ماحياً عين أفعى تتنصّت إلى قوس رماده الميت لمذاق دبس يتموّج في نبيذٍ غير لذيذ،  يقبض على قلق الكلام كثيراً. 
*****
الجميعُ حضر وشاركَ بالتصفيقِ على إكمال متر في نصفه، كأنما حفرة تسألُ عن سببِ الموت،  وتشكّكُ في نيّتي المتهرّئة وموافقتي الباردة على نسيانِ الحب.  بشكلٍ طازجٍ ككيسِ نايلون قديم، أمام بابِ معبدٍ لا تدخله إلا الطيور. جميلٌ أن أكونَ في جوف نعش،  وأنا بعد لم أولد،  ولا أحد منّي عرفَ بأنّي متّ! ملفوفاً بباقة نساء على استعداد لغسلي تحت أقدام تمثال كنتُ أستمني خلفه. خوف كاهن كان يراقبني وأنا أبدّلُ هيكلي العظمي،  وأسحبُ يدي من ثقوبٍ تلتصقُ بأصابعي النيّة فوق السرير، وكما شاهدتُ الجميع، ضحكوا أمام نعشي في الصورةِ التذكاريّة، ما عدا الموت كان منشغلاً بقراءة ِملفٍّ بارد،  مجموعةِ نصوص في لفّافة تبغ وقهوة في بهوِ غيمةٍ تكتبُ أفكاراً عن جغرافيّة،  تفكّرُ بالرماد ونوم بلا لغة،  لحدثِ يوم غد في ملفّ ما زال يمشي رغم انتهاء جلسةِ العمر،  وفرحي بمواصفات جيناتي المتوشحة بشريطِ باز من ضوءِ أعمى. كنّا منهمكين في العثورِ على ليلٍ بلا ظلام لزيارةِ امرأة مضطربة برائحةِ شراب،  يلطّخُ ثوبها الأبيض والكثير من أغصان الزيتون تنبئ أنّني نسيتُ عالماً واسعاً،  ما عاش حياتي بعد بيوميّاته الباذخة الرغبة،  لعدمِ الثقة بكلِّ مكانٍ يدورُ حولي. 
فدعوني وشأني مثلما عشتُ قبلاً! عدّة مرّاتٍ ما كنتُ أمثّل دورَ الحي بمتعةِ، لو كنتُ كما كنتُ سابقاً، لو كنتُ على هيئةِ شخصين بمعيّتي. أفطس في طراوةِ صلصال، كنتُ أرسلُ واحداً منّي، امرأة أصرّتْ على البقاءِ قربي،  وواحد آخر إلى حربٍ مهجورة مارست الحبَّ في رقتها، لأبرّرَ وجودي وأنا ملتصقٌ بكرّاسةٍ. 
تنضجُ بنصوصٍ لا تعي من
 تكون. 
 
*****
لا يوجد أحد أجلس أمامه،  كمثلي يواظب على الحضور بحرصٍ،  كطفل أمام مدفأة جدي ألعبُ معه النردَ وبنشوةٍ لا حدود  لبرودِها المعتاد،  أغمضُ عيني عبثاً وأصيد طيراً ميّتاً في أعالي النوءِ!
ما زالَ ينظرُ إلى حبّة ِ حنطةٍ في فمِ حفرة كعيني تمثالٍ سومري أقلقني بإطاراتٍ فارغة لأشخاص يخرجون من جوفه. في وقتٍ متأخر من لحظةِ فجر يتلقّى تعازي الشمس لبضعةِ ثوان، يهتمُّ بالنظر إلى قلقِ تابوتٍ. ما يجعله يتمتّع بجسدي ويخشى هواءً مشكوكاً بأمره. يدخلُ الباب الواسع للمقبرة،  لا يوجد أحد أنتظره،  ينجزُ معي مهمّة إخراج الظلام من ضحكتي. الثلجُ في هيكلي العظمي مشغولٌ بالمستقبل،  وبيدِه باستمرار ما يجعله يتمتّع بجسدي،  ولا يخشى هواء مشكوكاً بأمره،  يركضُ بانتعاشٍ،  وسعيداً بلا تردّد. يتعرّى قرب النهرِ، يبعثُ رائحة َ ورد صغير،  يطلقُ نصفَ عريه وحيداً جنبَ يد امرأة،  تتسلّقه بارتخاءٍ كأنما يذهبان إلى حرب ليعثرا في الطريقِ على بقعةِ ماء في
 السرير. 
وكنت على ما يرام لأسهرَ،  وأشعر أنّي لستُ صغيراً،  فقد خرجتُ وحدي بسهولة، وسيراً على قدمين مقطوعتين إلى هذا العالم لأتباهى أنّي مرّة غسلتُ مهدي برغبتي الصغيرة الساخنة كعمري الطويل، وكنت أتمدّد مندهشاً في البند،  وآلهة بأصابع الجنيّات في ثقوبي، وأقلّد الكلام المسكوت بالخرافات،  وأطيّبه بالنعناع البرّي، لأسعلَ باستمرار. 
رعشتي تسقطُ أمامي فاقدةَ الوعي