د. هبة مهيدة *
لماذا لم تستثمر الشعوب العربية في ما سمي بربيعها لتحقيق وثبتها نحو تأسيس نماذج لدولة القانون والمؤسسات، لماذا يظهر دائماً من يركب الموجة ويحتوي انتفاضات الشعوب ويعيد بسط سيطرته من جديد عليها لإحباط فرصها، بينما تخفق الشعوب حتى تنتفض ثم تستكين ثانية وتصمت وتبتعد وتغادر ساحات الاحتجاج محبطة مستسلمة؟
أين هي الطبقة المثقفة وما هو مكونها أصلاً؟ من هؤلاء الذين ننتظر أنْ يشكلوا النخبة التي تحمل الشموع لتنير الدروب في الليالي الحالكة وتخرج أبناء الشعب الى طرف النفق الآخر؟
لماذا لا تتوفر في الجزائر الآن معارضة حقيقيَّة تستطيع أنْ تؤمّن -على الأقل- الفترة الانتقاليَّة، وتأخذ مقاليد الحكم في ظروف بهذا السوء، وتستطيع أنْ تحقق شيئاً من الإجماع الوطني حولها؟ لماذا نحن شعب بعد انتفاضته السلميَّة الجميلة يجد نفسه بين المطرقة والسندان بين حكم متجبر متسلط أُزيح عنه اللثام وحكم عسكري متهم هو الآخر بتهم أسلافه ذاتها، ولا مفر منه أو هكذا يبدو الأمر، أين أخفقنا نحن المواطنين؟ هل كان ينبغي أنْ نلعب دوراً ما؟
إنك لا تستطيع أنْ تضع العربة أمام الحصان هكذا يقول المثل الفرنسي، ولا نستطيع أنْ نستعجل موسم القطاف ونحن لم نزرع، نحن لم نبن الإنسان فينا بوصفها أولى اللبنات التي يمكن اعتمادها في أي مشروع حضاري، ولم نبن مؤسسات لدولتنا، ولنكن منصفين فلنقل إنه لم تتح لنا الفرص لإنجاز ذلك، وربما تكمن مسؤولياتنا في كوننا تركنا أنفسنا رهائن لأنظمة فاسدة دجنتنا مطولاً، وحان وقت صحوتنا واستيقاظنا بفعل أجهزة الوخز التي سخرتها عهود بوتفليقة اللامنتهية لإسكات انفعالاتنا، ولكن هيهات كان لها مفعول عكسي، فلا يزال هناك فينا في وعينا الجمعي المتوزع بين كل المواطنين والمتواري دبيب حياة مستتر، حين استيقظنا من غفوتنا لم نجد من حولنا شيئاً سوى الخراب.. خراب مشوه.
عندما كنا نَقبل أنْ نقف في الطوابير الطويلة للحصول على المواد الرئيسة لإسكات الجوع، وسد الرمق، لم نكن ننهل فقط من مواطنتنا، بل وحتى من رصيد الإنسان فينا، عندما كنا نقف في الطوابير بالساعات من أجل الحصول على أجورنا من المراكز البريديَّة والبنكيَّة، ونقف بالطوابير حتى للحصول على البنزين لقيادة سياراتنا، لم نسأل حينها أنفسنا عن الذي كان يحدث عن قصد لقتل كل شيء فينا وتنمية الارتكاسات الأوليَّة، وتحويلنا الى كائنات تغلب عليها غريزة البقاء لتضمن الاستمرار في الحياة كحيوانات مشوشة مهكرة الأدمغة، ومسلوبة الإرادة وغير معنية بما يدور في كواليس السلطة البوتفليقية وأصبح لا يعني لنا الكثير أنْ نرى بوتفليقة وأسرته - التي حولت الجزائر الى ملكيَّة خاصة - وهو يطل علينا بكرسيه المتحرك، مع أفراد أسرته يرتدون بدلاتهم الراقية الأنيقة ويحيطون به في مشاهد تذكر بأفلام المافيا الإيطالية، مشاهد ولا أي نصوص دستوريَّة أو قانونيَّة كانت لتسمح بها في أي دولة تحترم المواطن.
نقل لنا - في عدوى انفعاليَّة عصبيَّة - عجزه وإعاقته، كنا حينها نياماً نخشى الإقبال على الاحتجاج لأنهم خلقوا لنا في وعينا الباطن بعبعاً بنوه وكبروه اسمه الإرهاب وكل متحدث بالسوء عن بوتفليقة كان سيستدرك ليقول إننا ولله الحمد ننعم بالأمان بعد العشريَّة الدمويَّة بفضل رجل السلم والسلام والوئام الوطني الذي بني على اختلالات سسيونفسيَّة من الصعب أنْ يتعافى منها المواطن على المديين المتوسط والبعيد، والتي تشبه في آلياتها غير المدروسة سياساته الاقتصاديَّة القائمة على إلغاء فكرة الثواب والعقاب بتبنيه قرارات منح الشباب أموالاً للاستثمار بطرق غير محسوبة العواقب، أقل ما يمكن أنْ يقال عنها إنها تؤدي لاختلال في منظومات القيم المتعارف عليها، فأصبح الشباب يتساءلون عن الهدف من مواصلة الدراسة إذا كان بوتفليقة وقوانينه تتيح لهم فرص إنجاز المستقبل المأمول وفق رؤاهم القاصرة بطرق سريعة ومختصرة.
ولا أحد كان يميط اللثام عن الحقائق الاقتصاديَّة المرعبة التي كانت تتتخبط فيها البلاد ولا تزال بتبنيها سياسات الارتجال والاعتماد طوال أربع عهدات رئاسيَّة على اقتصاد الريع والانبطاح للقوى الاستعماريَّة، لا أحد استطاع أنْ يدقَّ ناقوس الخطر إلا القليل الذين حاولوا وبسبب ذلك أبعدوا من الطريق الأعوج الذي اعتمدته السياسات المنتهجة.
وتفرق المثقفون ما بين هؤلاء الذين كانوا يدقون ناقوس الخطر فيبعدون وانتهوا بانسحابهم الكلي بسبب القنوط من سوداويَّة المشهد ووعيهم بضرورة أنَّ التغيير لا يأتي بشكل عشوائي بين ليلة وضحاها، وما بين أولئك الذين لا يملكون من الأحلام والطموحات سوى تلك المتعلقة بعوالمهم الصغيرة بمنطق (تخطي راسي وتفوت)، وبين المثقف الانتهازي الذي لا يزال يراوح المكان جيئة وذهاباً ما بين المناصب الى أنْ يلفظه المكان بالإحالة على التقاعد.وأدى انسحاب المثقف من الساحة الى ظهور كائنات جديدة لا تمت للثقافة بصلة و لكنها تسابقُ بعضها البعض لولوج عالم الثقافة المغري وتسارع من أجل الانتماء الى دوائر مبدعي السلطة والمبجلين لها، وتسارع لاحتلال المكان المتاح من قبل المؤسسات الثقافيَّة التي تبحثُ لها عن مشروعيَّة الاستمرار كركائز تبريريَّة لنظام فاسد.
لا التاريخ ولا المنظومة السياسيَّة سمحا بظهور معارضة قويَّة استطاعت أنْ تستقطب الشعب وتقنعه بطرح بديل ولا تزال السلطة اليوم تستثمر في آخر خراطيشها وتستمر بسياسات الترهيب وقمع الحريات في محاولات يائسة لإشراط بافلوفي أخير لوقف الحراك الذي لا محالة سيجهز عليها لأنَّ الغول النائم قد استيقظ، ولا بدَّ أنْ يستعيدَ المجتمع استقراره مجدداً بحسب قانون الحياة الطبيعي ولكنَّ الأكيد إنَّ البنيات التحتيَّة عندما تهتز وبعنف فلن تعود أبداً الى صورتها أو ترتيبها الأول.
* أكاديمية جزائرية