في كتابه الأخير( فوتوغرافيا/ علي طالب.. العربات أجساد) يستدعي ناجح المعموري، هاجس الحضور والغياب وبشكل ملفت، فالغياب المادي، المفاجئ لرفيقه الفنان علي طالب، وخشيته من عدم قدرة المعرض الفني على إيصال رسالة الفنان علي طالب إلى أكبر قدر ممكن من الجمهور، لذلك كان تأليف هذا الكتاب، عبر دار المدى، هو أبلغ رد ممكن أن يقدمه المعموري على الموت، الذي لا يعني له شيئا بقدر ما هو حافز للكتابة.
رغم أن المعموري نفسه، يقول عن الموت: هو لحظتنا التي لم نستطع الافلات منها، وسنظل ملاحقين بظله وحقيقته المتوحشة التي هرب منها ملك أوروك جلجامش. وهذا ما سعى إليه المعموري، عبر تأليف هذا الكتاب، في محاولة منه لمنح صديقه علي طالب حضورا رمزيا، يعوض غيابه المادي. هذا الكتاب، عبارة عن نص كبير، اشترك في كتابته ناجح المعموري وعلي طالب وحتى ماجد الماجدي مصمم الغلاف. وتبدو المقاطع الثلاثة وكأنها نص واحد، كتب بنفس اللحظة، رغم أن المقطع الأول هو الغلاف أي لوحة فنية والمقطع الثاني ما كتبه المعموري والمقطع الثالث صور العربات التي التقطتها عدسة الراحل علي طالب. في المقطع الأول الذي أبدعه ماجد الماجدي، وهو الغلاف، نجد أنه في الأعلى صور لنماذج قديمة من آلات التصوير، تعود إلى حقب مختلفة، وكأن الماجدي يقول إن الكاميرا، كانت موجودة منذ وقت طويل، كانت موجودة لتحاكي واقع الناس، وتغري أصحابها لنقل ذلك الواقع عبر مزجها بخيالاتهم. ثم يأتي اسم المؤلف ناجح المعموري في خانة أقرب الى اللون الرمادي وبخط أسود، ثم صورة علي طالب وهو يرتدي ملابس شتوية، تحاكي الصور التي التقطت في فصل الشتاء، وهو ما يبدو واضحا، من خلال الوحل ومياه الأمطار. ثم عبارة( فوتوغرافيا) بلون أحمر وخط غامق وواضح، للدلالة على مركزية الفوتوغرافيا في هذا الكتاب، ودورها في صناعة عالم خاص بعلي طالب. وبعدها يأتي اسم علي طالب.. العربات أجساد، مكتوبة على مكان أسود ولون الخط أبيض، وهي إحالة الى لافتات الحداد التي تكتب بنفس الطريقة، وكأنه يقول لمن لا يعرف علي طالب، بأنه ليس على قيد الحياة، ليس هو فقط، بل حتى العربات والأجساد. العنوان، يوحي إلى أن المعموري، رأى أن فن علي طالب حوّل العربات الى معادل موضوعي للأجساد والعكس صحيح. فيمكن القول: الأجساد.. عربات. فلا قيمة للأجساد بلا عربات، ولا قيمة للعربات بلا أجساد. وهو ما نوه المعموري عنه في بداية الكتاب: العربة معطلة إذا لم تتحرك نحو فضاء آخر وهو الخارجي حيث الآخر. وكذلك الجسد، هو الآخر سيبقى معطلا ولا قيمة له، إذا لم يتحرك نحو الآخر المهمين على جميع اشتغالاته وطقوسه اليومية وهذا الآخر هو العربة. العتبة الأولى التي وضعها المعموري للولوج الى المقطع الخاص به، هو صورة علي طالب وهو يدفع عربة، وتعلو وجهه ابتسامة خفيفة، وخلفه، طابور من العربات تنتظر دورها للدخول في الصراع اليومي المعتاد. أراد المعموري أن يوصل رسالة مفادها بأن علي طالب، أدى دوره عندما أخذ عربة ليدخل بها إلى الفضاء الوحيد والطبيعي لها وله، والأرض الموحلة، تشير إلى الصعوبة الكامنة في هذه العملية، إذ أن العربة لا يمكنها ان تسير في الوحل بسهولة، لكن علي طالب قرر أن يتحدى الوحل وينطلق، وما الطابور الذي يقف خلفه، إلا رسالة للآخر، أن يحذو حذو علي طالب. يقول المعموري عن تلك الصورة: الصورة الشخصية للفنان علي طالب وسط خان للعربات يمثل بغداد المختفية، أو السردية التي لا يعرفها إلا القليل وهو مكان خرب، المشيد الوحيد في الصورة، كوخ جدرانه كارتونية قريبا منه عربات، أخذ واحدة منها.. فتح ذراعيه على مسند ذراعيها الأيمن والأيسر ورفع قليلا من كتفية وبدا مثل طائر يفرد جناحيه قبل الطيران. يرى المعموري أن علي طالب في تلك الصورة، تقمص دور العتّال، الذي يشعر بأن بعده عن العربة يعني سجنه، ومجرد إمساكه بالعربة، يعني له التحليق بعيدا في الفضاء الذي يحب. فاستراحة العتال كما يرى المعموري هي تعطيل لجسده، وهو لا يريد ذلك إلا في الوقت الممنوح له من تعطل حركة السوق وحيوية جسده في ديمومة وظيفته اليومية مع علاقته بالعربة. لقد استطاع المعموري أن يوصل رسالة علي طالب إلى أبعد مدى وأن يكشف للمتلقي ما خفي منها، فهو قد نقل معرضه( فقراء.. أثرياء) من فضائه المعتاد وهو جدران المعرض، إلى فضاء أكثر اتساعا ورحابة، إنه فضاء الكتابة الفسيح.
فقراء.. أثرياء هو عنوان المعرض الأخير لعلي طالب، والفقراء الأثرياء هم العتالون لا غيرهم، فهم أثرياء حين يحلقون مع عرباتهم في الأسواق، وفقراء، حين تقف عرباتهم في الطابور تنتظر دورها في العمل، وقد يتأخر الدور وقد لا يأتي أبدا. إن لكل صورة من صور المعرض التي نشرها المعموري ضمن كتابه، تشير إلى حالة معينة، فالصورة الأولى مثلا، رجل يدفع عربته وخلفه رجل جالس ينتظر الدور والمفارقة، أن العربة المعطلة يجلس عليها صاحبها، في حين أن الثانية تتحرك وهي فارغة! صور أخرى، لعربات مقيدة بسلاسل حديدية الى عمود كهرباء، وهي إشارة الى التعطيل المؤقت، الخائف من الآخر والساعي الى التحرر السريع، لكن على يد العتّال الحقيقي وليس المزيف.
إن كتاب المعموري هذا، بالرغم من قصره، إلا أنه حمل دلالات ثقافية وأخلاقية كبيرة، أهمها الوفاء للآخر/ الصديق الذي رحل قبل أوانه. فما أراده المعموري من كتابه هذا وهو الحضور الرمزي للراحل، قد تحقق فعلا، فهو أي المعموري، منح للراحل مساحات واسعة أكثر من تلك المساحات التي منحها
لنفسه.