نوبل وما هو أشدّ وطأة من فضيحة التحرش

ثقافة 2019/10/20
...

عبدالزهرة زكي
 
يفتتح في غضون هذه الأيام متحف الفن الحديث في نيويورك، وذلك بعد إغلاقه لإجراء توسعة كبيرة له وبعد تغيير جذري في رؤية وطبيعة تنظيمه. يَعِدُ هذا التغيير بأن" المتحف المبجّل" يعمل على أن" يعيد توازن جدرانه – معززاً، بشكل كبير، بأعمال النساء والفنانين الملوَّنين" حسب مقال لشارلوت هيغنز في الغارديان يوم الأربعاء الماضي.
 
هذه إشارة إلى مساعٍ من أجل (الإنصاف)، إنصاف الفنانات وإنصاف الفنانين الملوَّنين، وهي بالتالي توكيد غير مصرَّح به على غياب قيم العدالة في عرض الفن وتداوله.
وفي ما يبدو من إشارات أخرى مماثلة أطلقت الأسبوع الماضي، إنما من أوربا هذه المرة، فإن الإحساس بغياب العدل، في هذا المجال، هو شعور متنامٍ ويمكن أن يكون محفِّزاً، حتى وإن تذهب النتائج إلى تشويه معاني العدالة. 
ففي الأسبوع الماضي، وكما يحصل في أكثر المرات التي تعلن فيها جائزة نوبل للأدب، فإن لجنة الجائزة جوبهت بعاصفة من النقد الشديد لدواع مختلفة ليس بشأن اختيارها الفائزَين بالجائزة للعامين الحالي والماضي حسب وإنما أيضاً لتقريع اللجنة بموجب ما صرحت ووعدت به مؤخراً وذلك قبل أيام قليلة على تسمية الأديب النمساوي بيتر هاندكه للفوز بنوبل لعام 2019 إلى جانب أولغا توكاركوك من بولندا
 لميدالية 2018.
ما صرحت به اللجنة كان يؤكد على أن التوجهات ماضية بصدد العمل على كسر ما يمكن تسميته باحتكار الأدباء الغربيين، بشكل أساس، الجائزة والانفتاح أكثر على آداب أمم أخرى، وعلى أنها أيضا بصدد تقويم المعادلة المنحازة للأدباء الرجال وذلك بأن" بأن تكون أقل توجهاً نحو الذكور" لـ (صالح) النساء
 الكاتبات.
لقد كانت لجنة الجائزة تريد بتصريحها أن تؤكد سعيها لـ" إعادة تقويم اتجاهها"، وذلك بعد سنة من (المراجعات) التي سمح بها تأخر منح الجائزة للعام الماضي وفرضتها الفضيحة التي أدت إلى هذا التأخر. ولكن النتائج لم تسعف مصداقية اللجنة، وهذا جانب ليس في وارد اهتمام هذا المقال، ما يهمنا هنا هو الإشارة إلى (تقويم الاتجاه) ومن ثم التلميح بغياب آخر لقيم العدالة وهذه المرة ليس في الفن التشكيلي (مجال عمل متحف نيويورك) وإنما في مجال الأدب، بمنح الجائزة الأرفع في عالم الأدب في الحياة المعاصرة.
لقد أشرنا قبل قليل إلى إمكانية تشويه معاني العدالة حتى حين يكون التوجه متخذاً من العدالة هدفاً له، وقد كان فوز النمساوي هاندكة تعبيراً يمكن استخدامه لتأكيد هذا التشويه وذلك في سياق اعتبارات منح الجائزة خلال عمرها الطويل
 نسبياً.
النقد الصارخ، في الغرب نفسه، والذي جوبهت به اللجنة بسبب منح جائزتها لهاندكه، كان يتساءل عن دواعي منحها لأديب جرى وصف موقفه بالمخزي من المذبحة التي تعرض لها البوسنيون في مدينة سريبرينيتسا فيما لم تمنح الجائزة قبل هذا لأدباء كبار كان من بينهم، مثلاً، إزرا باوند المتورط هو الآخر بموقف مخزٍ من الفاشية ومما ارتكبه الفاشيون ضد اليهود في أوربا.
لم تكن لجنة نوبل تريد بمنح هاندكه الجائزةَ أن تتخففَ من القيود الفكرية الصارمة التي ألزمت نفسها بها، فمن حيث المبدأ ما زالت ساريةً هذه القيود التي تنظر اللجنة بموجبها في تاريخ وسلوك الأديب ليتقرر في ضوئها السماح بدخول أديب نادي النوبليين وبعدم السماح لآخر سواه، يعتمد هذا المعيار الخارجي بتوازٍ أقل مع المعايير الداخلة للأدب، مع ما يتقرر في ضوء القيمة الأدبية للأديب. الذرائع الأخلاقية تسير بموازاة الذرائع الأدبية وربما تتقدم عليها.
ومع الإصرار على هذا التلازم للجمع ما بين السياسة والفن فإن مبدأ العدالة يتشوه بذهاب الجائزة لهاندكه.
وهو مبدأ سيظل عرضة للتشويه كلما كانت السياسة لا تقف عند تصور واحد ومعنى واحد للعدالة، ما هو ممكن للتغاضي عنه في البوسنة لن يكون ممكناً في مكان آخر وجماعة بشرية أخرى. أية قسمة ضيزى هذه!
لكن، ربما يستحق هاندكه الجائزة فعلاً إذا أهلمنا، أو، وهذا هو الأصوب، أهملت لجنة الجائزة فعلاً الاعتبار الأخلاقي والسياسي وركنت فقط إلى القيمة الأدبية كمعيار. إن نسبة الخطأ في فهم العدالة محتملة أيضاً بالركون فقط للقيمة الفنية، لكن الاختلاف في معايير وتقويم الأدب، وبالتالي اختلاف الأحكام بصدده، سيكونان أقل أثراً ووطأة من غياب العدالة باعتماد السياسة. يحتمل الأدب نفسه الاختلاف في النظر إليه، كفن، وإلى كيفية الحكم على قيمته، بخلاف الاتخاذ من الصرامة الفكرية والسياسية معياراً للتقييم.
وإلا ما معنى العدالة بمنح الجائزة مع السعي، بإرادة مسبقة، من أجل التخفف من مركزية أدباء الغرب والأدباء الذكور؟ كيف ننظر إلى معنى العدالة حين تحجب الجائزة، مثلاً، عن كاتب أوربي رفيع القيمة وتذهب لأديب آخر غير اوربي، لا لشيء إلا لأنه غير أوربي وبفوزه يضاف رقم جديد للفائزين بالجائزة من غير الأوربيين وكذلك الحال في المعايرة ما بين الأدباء والأديبات.
بالتأكيد أن آدابا وفنوناً معاصرة تطورت كثيراً في الخارج من الغرب. تحتاج (نوبل) نفسها للعدالة حتى لا تخسر أدباء كباراً من ثقافات كثيرة، فيما سيترفع هؤلاء الأدباء على نظرة نوبل الفوقية، على أسلوب لجنتها الموحي بالعطف وبنبرة التشجيع الأبوي. الكاتبات والفنانات بمختلف أنحاء العالم بتن هن أيضاً مسهمات أساسيات في إنتاج وتقدم الآداب والفنون، وحتما لا يرتضين هذه النظرة المتعالية بعطفها وعدالتها.
تلك معايير محاصصة أو كوتا على غرار ما يحدث في السياسة لدينا.
لا أعرف، لربما تحتمل السياسة مثل هذا التساهل، لكن في الأدب لن يكون ممكناً هذا. لا فخر ولا مجد لأديب لا ينال الجائزة إلا لكونه من مكان وثقافة يستحقان العطف والتحفيز والتشجيع بموجب لجنة نوبل. العطف سلوك إنساني نبيل حين تمزّق السياسةُ ومظالمُها الناسَ ما بين مقتدرين وآخرين يستحقون العطف، لكن ليس هذا صحيحاً في أحكام الأدب والفن. هذا شكل أكيد من إهانة الأدب والكتّاب، وقد لا يتعرض إليها الفن والفنانون في مجال مسعى متحف نيويورك أيضاً نحو عدالة تمثيل المرأة
 والملوَّنين.
تستهل شارلوت هيغنز مقالها بالغارديان بالإشارة إلى تأكيد أرسطو، بكتابه فن الشعر، على أن الشعر أكثر علمية وجدية من التاريخ، وذلك طبعاً بالركون إلى معايير رؤية وفحوى الأدب والشعر.
لا رفعةَ في الأدب إلا بالمقايسة مع رفيع الأدب.
المؤثرات الأخرى في الأدب، من حيث التقويم والأحكام، لها مجالها الآخر، التاريخ والأخلاق، وهو غير مجال فحص قيمة الأدب.
بمنظور أكثر أدبيةً ستكون فضيحة التحرش أقل وطأة على لجنة نوبل من تشويهها معايير العدل في الأدب
 والثقافة.