اختلفَ تعاطي القوى السياسية العراقية مع التظاهرات التشرينية بين خائف مترقب، ومرحب بخفاء ومستثمر بدهاء، فالكثير من القوى السياسية الشيعية لم تخف قلقها ودهشتها من الفعل الاحتجاجي الغاضب السريع الذي اجتاح شوارع نصف المحافظات العراقية، ولا سيما أن هذا الاحتجاج أشر بوضوح تام على مسؤولية هذه القوى التي أدارت السلطة والاقتصاد في ما وصلت إليه البلاد بسبب أخطائها وفشلها وعجزها ومحدودية خبرتها ومدركاتها، قلق الزعامات والفاعليات الشيعية وصلت أصداؤه إلى الشارع وظهرت نتائجه في طبيعة الإجراءات المتخذة ابان وقوع التظاهرات وما بعدها، وفي طبيعة التصريحات والخطابات السياسية التي رافقتها، فالأعم الأغلب كان يرجو أن تهدأ الأمور ويستجاب للمطالب حكومياً ولم يتأخر البعض الآخر في الإعلان عن الانحياز للمتظاهرين والتحذير من المندسين، وهمه الأكبر ألا يفلت من بين يديه زمام شطر من الشارع المحتج، الذي تجاوز جميع الزعامات والشعارات والمؤسسات السياسية، الشطر الآخر من القوى الشيعية كان متأهباً للدفاع عن مكاسبه السياسية والمالية، ومستعداً للانخراط في المشروع المضاد للتظاهر، ولو باللجوء إلى العنف والاستفادة من التجارب والوصفات الناجحة بدعوى أن محركات التظاهر كانت مشروعاً انقلابياً مدعوماً اميركيا، وان ناشطيه معروفون بالانتماء إلى المعسكر المدني الذي هو اميركي بالتعريف الاسلاموي .
سنياً لم يظهر رد فعل واضح للفاعليات السياسية ازاء التظاهر، إلا أن الخطاب الضمني المفهوم كان يشي بالارتياح للتظاهرات بأمل أن تشكل ضغطاً كبيراً يُضعف هيمنة القوى الشيعية على مفاصل الحكم والقرار السياسي والأمني ويسمح لاحقاً للقوى السنية بتطوير خطاب تحسين المواقع، والحصول على امتيازات وتنازلات في بنية السلطة والدولة عموماً، ولتحشيد المزيد من الادلة على سوء إدارة الفاعل السياسي الشيعي وتشظي سلطاته وارتهان قراراته وهيمنة الآخرين عليها. ما يؤكد هذا المنطق هو عدم امتداد التظاهرات الى المناطق السنية ونأي الشارع السني عنها، والاكتفاء بالمراقبة والتأييد الاعلامي .
اما كردياً فان الاقليم ظل مرتاحاً لما يحدث في الوسط والجنوب للتدليل على سوء الادارة والسياسة، وعدم الاستقرار المزمن وحاجة الكرد الى الخلاص من هذا الواقع المرير باحماء مطلب الاستقلال والانفصال او في الأقل جعله حياً وشاخصاً في الاجندة والبازار السياسي، فما حاجة الكرد للبقاء ضمن دولة مركزية يتصارع أقطابها وشعبها وتعصف بها الازمات من كل جانب؟ ويتهددها القلق الامني والاحتراب الواسع؟ . الكرد في موقفهم الداخلي اكثر استبشارا من السنة بما جرى ويودون لو تستمر التظاهرات لارخاء قبضة السلطات في بغداد اكثر، وان كانوا يقلقون من دعوات تنقيح الدستور وتعديله لئلا يخسروا مكاسبهم الكبيرة، لكنهم مطمئنون الى حد كبير الى قدرتهم على احباط اي مسعى من هذا النوع يقلل من امتيازاتهم الهائلة، حتى لو نجح البرلمان في وضع مشروع تعديل الدستور موضع تنفيذ .
ما لم تدركه القوى السياسية الشيعية والسنية والكردية مجتمعة وهي التي حكمت البلاد وباءت بسوء افعالها ومواقفها، انها امام منعطف كبير وخطير وهي تواجه ولادة وعي سياسي وارادة شبابية على قطيعة تامة مع هوية ومتبنيات الجيل السياسي القديم والراهن، هذه القطيعة ستؤسس لما يمكن تسميته المرحلة الجديدة في نضال الحركة الوطنية العراقية التي تريد لم شتات العراقيين وتجميعهم في هوية وطنية واحدة تسعى لبناء دولة جديدة بلا خطوط طول وعرض مذهبية او عنصرية او قومية متطرفة، العراقي الغاضب بعمر العقدين او اقل لا يحمل في عقله تراث الحركات السياسية والحزبية والفصائلية العراقية التي تسيدت تاريخ مئة عام من عمر الدولة العراقية بكل اخفاقاته ونتوءاته، جيل التظاهرات التشريني جيل ساع الى التحرر من ربقة مساوئ الحزبية والزعاماتية العراقية بكل تلاوينها، انه جيل يجرب صيرورته من خلال الصراع، ويسعى الى فرض ارادته للخروج من الانسداد السياسي الذي صنعته الزعامات والاحزاب المتنافسة على سلطة وثروة البلاد، وسواء اتفقنا مع هذا الجيل او لم نتفق، غالينا في نظرتنا اليه ام لم نغال، فهمناه كما هو ام كما نشاء نحن وكما
يحلو لنا توصيفه وفهمه، لكنه في كل الاحوال وضع الطبقة السياسية امام مفترق الطرق اما الاصلاح والاستجابة الواعية والاستعداد لهذا التغيير المجتمعي بفهم سياسي نفسي، اجتماعي ظاهراتي، طبقاتي اقتصادي، او انتظار انهيار النظام الذي بقي متكلسا جامدا عديم الفاعلية، وهي نتيجة معروفة لكل نظام يصل الى هذه المرحلة. فما لم يصلح النظام نفسه سلميا ويستوعب رسالة الاحتجاج، فان شعار التظاهرات سينقلب الى الانقلاب الشامل بدل الدعوة الى الاصلاح السياسي، فالجمهور الغاضب لم يناد باسقاط النظام حتى الان، بل طالب باصلاحه، والفرصة ما تزال متاحة، ان امتلكت الطبقة السياسية الحكمة الضرورية للابقاء على الوضع تحت السيطرة ولقيادة التغيير باقل الخسائر .