حين نقرأ رواية ما ويكون عنوان الفصل الاول منها (جريمة بشعة) فمن المؤكد أن يثار فضولنا وتنشأ في دواخلنا التساؤلات والاستنتاجات التي تجبر المتلقي على ملاحقة الاحداث والسعي وراء ايجاد الخيط المتين الذي ينظم حلقات الرواية بما يشبع نهم القراءة لديه ، فابراهيم بطل الرواية وجد مقتولا وموزعا الى اشلاء ومعلقا على دكان القصاب في ( عقد الكرد)، من الذي قتله؟ لا احد يعرف ، لماذا قتل؟ تلك اسرار مجهولة وباجتماع رجال الشرطة وتكدس الناس على الحادث يتضح مما يثار من كلام تندلق به افواه الناس ان المجني عليه كان رجلا طيبا وكان على خلق قويم، يحبه الناس ليست على سيرته شائبة ثم تتدرج مجريات البحث ويتضح انه اقلف مما يثبت انه مسيحي الا ان الذين تعرفوا عليه من الناس ينفون ذلك بقولهم انه مسلم اما هويته فكانت تنطق باسمه
( إبراهيم الياس حنا) .
أسئلة الرواية
ما الذي حصل لابراهيم ذلك الانسان الطيب المسالم او ما الذي فعله كي يقتل بهذه الطريقة المرعبة؟
ما الذي جعل قاتليه بهذه البشاعة بحيث يقتلوه ثم يمثلون بجثته بطريقة لا انسانية ويعلقون اشلائه على معلاق القصاب في صباح كئيب مرّ على ذلك اليوم المشؤوم؟ ثم ما هي المسوغات التي تجعل من الانسان كائنا مجنونا بالقساوة واللارحمة ازاء الاخرين بما يجيز له قتل الناس من دون مساءلتهم حتى؟
اما السؤال الابرز الذي دار في ذهني بعد انتهائي من قراءة الرواية هو :هل يمكن اختزال سيرة حياة كاملة امتدت خلالها احداث سياسية وتاريخية اثرت بشكل ما في الشخصية المركزية في الرواية بشكل جلي؟ وذلك خلال فترة زمنية امتدت من عام 1936 الى منتصف الحرب العراقية الايرانية وتلك عقود لا تخلو من الانتهاكات والانقلابات والثورات؟ الا ان الاجابة التي اتمسك بها لحين ادراك النص الروائي هو ان الروائي استطاع ان يمسك بملامح تلك السنين من خلال (شخصية ابراهيم) الذي عاش في خضم المجتمع العراقي الذي مرّ بمخاضات ما بعد الاحتلال العثماني والاحتلال البريطاني وسنوات الحكم الملكي وما اعقبها من سنوات ابتدأت بأحداث الرابع عشر من تموز وما اعقبها من صراع الاحزاب على السلطة التي انتهت بسيطرة حزب واحد تخبط بأبنائه شرا وجزعا، وكان واحدا من ازلام ذلك النظام له اليد الطولى في مقتل البطل، بعد ذلك لابد ان نوضح اننا اذا اردنا ان نقارب النص داخل المنظومة الروائية فإننا نمعن في تفاعلية نص متعالق بين الرواية التاريخية وادب السيرة والرواية الاجتماعية، ذلك ان الرواية التي من هذا النوع يدرك صاحبها جيدا انه من غير الممكن تجاوز الواقع بكل تفاصيله العميقة الذي يشكل جوهر اجرائها الثقافي بالبحث عن المضمرات والجوانيات ذات التحولات الكبيرة والخطيرة تماما مثلما فعل سليم علي الوردي في هذه الرواية فالخمسينيات والستينيات في العراق كانت برغم مرارتها تندلق بخفة وجمال فائق في الوقت نفسه، جمال قاسٍ وصلد لكنه بالمقارنة مع عقود اخرى، هو ذاته من يفصح عن الانحدارات التاريخية التي نعيشها اليوم، الانحدارات بوصفها حياة متغيرة بلا منطق من خلال النبش في جذورها وموجباتها وهي تنزاح بقوة في سيل من الصور التي تخدش الروح وتثير المقت والنفور، وبهذا فان التتابع الموجع لحياة ابراهيم تشير الى الزمن العمودي التراكمي الذي تتأسس اليوم حياتنا في دمامل جروحه الكبيرة، جروح فقأت فانفتحت على مصراعيها منذ نهاية السبعينيات ثم انطلقت بقوة وقسوة عالية.
صورة صادمة لذاكرة
بطل الرواية ابراهيم ولد في التاسع والعشرين من تشرين الاول سنة 1936 لأبوين نصرانيين، اختار له والده اسم ابراهيم لتنبئه بضرورة اختيار الاسماء المحايدة التي
ليس ورائها اصول دينية محددة ذلك ان ولادته شهدت يوم الانقلاب الدامي الذي احدثه بكر صدقي على وزارة جعفر العسكري وقتله، وكان هذا المؤشر الخطير للقلاقل التي ستأتي التي اطبقت صيحة اتهام عالية لتلك المتغيرات التي طفقت تظهر في شخصية الفرد العراقي وهو يواجه بيئته المتطرفة التي اجمعت على تشكيلها حزمة عناوين وارتكازات فكرية وسياسية، اجتماعية وعقائدية، عمد الروائي الى اختزالها فهي احداث جسام تمثلت بانقلاب بكر صدقي عام 1936 ثم مقتل الملك غازي وحركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941 ومعاهدة بورتسموث ووثبة كانون الثاني عام 1948 واعدام قادة الحزب الشيوعي عام 1949 وانتفاضة عام
1952 ومن غير الممكن منطقيا اجلاء وتقصي تلك الاحداث المهولة في فصل واحد ضمن رواية لا تتعدى المائتين وبضع من الصفحات رغم ان السردية النصية كانت على قدر عالٍ من حيث صياغتها ولغتها الحكائية الا ان الموضوع الاهم كان لدى الروائي هو ابراهيم وحياته التي توزعت ما بين مكانين محدودين هما (عقد النصارى) و(عقد الكرد) في بغداد وبإبراز المكان وتعيين الفترة الزمنية التي خاضت بها الرواية مشوارها الفني تظهر شخصيات اخرى مثل (سيروان) صديق ابراهيم وهو كردي شيوعي ذو ميول وطنية تحررية مثلّ الشباب الواعي الثائر في تلك الفترة يؤازره في ذلك (جورج) الشيوعي المناضل عم ابراهيم الذي قضى سنين من عمره في السجون بسبب توجهه السياسي، ومن ثم ظهور (نعيمة) الحبيبة المسلمة التي تأخذ ابراهيم الى عوالم اسلامية تجعله يستشعر عقائدها ويعيش اجواء الحبور بمقدساتها حتى تشعر به وقد ألمّ به الحزن كأي عراقي مهموم بما حدث للإمام الحسين عليه السلام فتظهر الطقوس التي يستطيع الروائي ايضاحها ورسم صورها بما يهيئ القارئ لتلقي احداث ثورة 1958وما رافقها من انتهاكات ومعاناة على الشباب العراقي على الرغم من المشاركة
المحدودة لابراهيم فيها،
وعلى الرغم من تلك المحدودية فانه يتعرض للاعتقال ويعاني الاحداث الجسام الا انه يبقى حائرا دون موقف محدد تأخذه اراء هذا واقاويل ذاك، ومن الواضح ان سليم علي الوردي عرض شخصية ابراهيم بشكل يخدمه في تعرية الواقع المعاش بما يملك ابراهيم وتملك الشخصيات الاخرى في الرواية من تبرم واضح لتلك الظروف القسرية التي فرضتها السلطة على الناس وان كان ابراهيم لا يملك الرفض
والتمرد العلنيين.