طيران فوق مقهى الواق واق

ثقافة 2019/10/21
...

باسم عبد الحميد حمودي
 
جميع من في بغداد يعرف(ساحة عنتر) التي تبدأمنها عملية الدخول الى (الأعظمية)يسارا وشارع الصليخ يمينا.
هناك وفي مواجهة تمثال السيد عنتر بن شداد العبسي ترتفع بناية النادي الاولمبي الذي اكتمل تشييده عام 1940وأطلق عليه بعد هذا اسم(نادي الأعظمية الرياضي) 
كانت هذه الساحة تقابل القسم العلمي في الخمسينيات من كلية( الآداب والعلوم) القديمة التي انشطرت عام 1958 الى كليتين .وكان مقر (كلية العلوم) الحديثة هو ذات البناية التي كانت تقابل الساحة الغنية بالاوراد والرياحين التي كانت تواجه بدورها الشارع الترابي ذو البساتين المتجاورة الذي يقع النادي في بدايته(ويسمى اليوم شارع المشاتل) وتقع عليه مجموعة من المقاهي الصغيرة وبعض المزروعات .
اتخذ بعض المثقفين الشبان في مرحلة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي أحدى هذه المقاهي مقرا لهم وهي القريبة من ساحة شاعر المعلقات المتسائل( هل غادر الشعراء من متردم؟) ليثبتوا عدم صحة قول الشاعر القديم الذي شهر سيفه من اجل حريته ومن أجل حبيبته,وأن العصر الحديث طافح بالجديد المتطور الذي ظلت الثقافة العراقية الحديثة بعيدة أو مبعدة عنه بسبب هيمنة ثقافة  المجالس التقليدية المتأثرة بالثقافة العثمانية المهيمنة سابقا وبثقافة الشعر الكلاسيكي واسترجاع أدب البيان والتبيين – كمثال- دون استنهاض للتجديد.
كان حاضر الأربعينيات – الخمسينيات وأيامها رخوا فقد دخل العراق الحرب الثانية كممر لقوات الحلفاء بعد هزة حركة 1941 الذي اصطدمت عناصر من الجيش الوطني  برموز السلطة التقليدية المهيمنة( الوصي –السعيد ومن خلفهما الانكليز)على القوى الثورية في الجيش والسياسة.
قامت السلطة بإعدام قاص وكاتب سياسي عمل وزيرا مع حكومة الكيلاني هو المحامي محمد يونس السبعاوي لخروجه الواضح على سياسات الانحياز الى  الانكليز,وهي حكاية طويلة تتطلب منا الخروج عن هدف هذه المقالة والدخول في عمق تجربة موقف العراق من الحرب الثانية.
المهم أن مجموعة من شباب الثقافة وجدوا أن من حقهم أن ينؤوا بأنفسهم عن الصراعات السياسية المحتدمة وأن يؤسسوا  تجمعا ثقافيا  فيه القاص والرسام والمترجم والشاعر,في مقهى أسسوه لانفسهم هناك في شارع المشاتل وأسموه( مقهى الواق واق) استدلالا على أحلامهم في ما يريدون ويفكرون ,وقد أفردوا الطابق الثاني المتداعي من المقهى لصديقهم الشاعر القادم من هويدر بعقوبة حسين علي مردان,الذي اشتهر باسم (حسين مردان) حتى رحيله المبكر في 4-10-1973 بعد ان اشتهربقصائد النثر المركز والقدرة المدهشة على التغيير في النسق الشعري الحديث.
جاءت تسمية (الواق واق)  من تسمية حلمية – جغرافية أطلقها العرب على مكانين في العالم القديم ,الأول يقع في الصين,والثاني هو جزيرة مدغشقر التي تسمى اليوم جمهورية مالاغاسي,وقد وصفهما العالمان الجغرافيان محمد بن زكريا الزهري  وموسى السيرافي الذي قال انه دخل الى عاصمتها ووجد الملكة جالسة على عرشها شبه عارية والالاف يحرسها والتاج على رأسها.
هذا الوصف الخرافي غير التقليدي ربما استهوى مجموعة الشبان العراقيين الذين صنعوا واق واق جديدة!
هؤلاء الشباب كونوا مجموعة تقدمهم فيها التشكيلي الشاب جواد سليم بمصاحبة ساطع عبد الرزاق وابراهيم اليتيم وحسين هداوي ومحسن مهدي والشقيق الاصغر لجواد وهو الرسام القاص نزار سليم  وبلند الحيدري وخلدون ساطع الحصري وعدنان رؤوف(الموظف في الخارجية بعد هذا) وسواهم .
سمت هذه الجماعة نفسها (جماعة الوقت الضائع ) بمشورة نزار سليم,وكانت هذه التسمية وتسمية المقهى احتجاجا على سوء الأوضاع السياسية خلال الحرب,دون كلمة معارضة واضحة كالتي يقوم بها تجمع شبابي آخر  يضم غائب طعمة فرمان ومهدي عيسى الصقر  وعبد الملك نوري وعبد الصمد خانقاه وسواهم.
كان فؤاد التكرلي يواكب الجماعتين ,وكان من يزور جماعة الوقت الضائع الكاتب الشاب(أيامها) علي جميل الشوك الذي كتب عنها مقالة مهمة في الاديب البيروتية عام 1954,وكان من يتعايش مع التجربتين الفنان جميل حمودي صاحب مجلة (الفكر الحديث) ايامها ,وكذلك  جبرا ابراهيم جبرا  فيما دخل  الشاعر محمود البريكان معترك  الحراك الثقافي ببغداد متأخرا قليلا وهو يعد العدة للدراسة في كلية الحقوق ويكتب أنشودة السائر في نومه.
غرابة أمر تجمع الوقت الضائع أن جواد سليم منظر الجماعة كان مهتما بأدب موباسان واحترافيته القصصية وقدرات جان كوكتو الإبداعية,فيما استهوت الجماعة تجارب أو . هنري  القصصية.
أصدرت جماعة ( الوقت الضائع) تجربتين  قصصيتين لنزار سليم هما مجموعتا (أشياء تافهة ) و(فيض ) والديوان الأول لبلند الحيدري وهو(خفقة الطين),وكلها تجارب تجديدية واضحة  الاهداف والبناء,فيما كان حراك المجموعة الثقافية الثانية تقدمي الهدف يسعى الى التجديد في الابنية الداخلية للنص واستخدام المنولوج الداخلي للبطل القصصي في العديد من التجارب.
كانت جماعة الوقت الضائع اكثر فردية واهتماما بجوانية الفرد وصراع المجتمع أكثر من هدر الوقت بالتجربة السياسية المباشرة.
وحين انسحب عنهم أبراهيم اليتيم متجها الى الفكر السياسي اليساري في باريس كان المفكر اللامع نجيب المانع بين
 الجماعتين.
انهارت  تجربة مقهى الواق واق بفعل الخوف من السلطة ولم يصدر من نشرة الوقت الضائع سوى عدد يتيم,وانتقلت الجماعة الى المقهى السويسري في شارع الرشيد حيث التقوا بالفنانين البولنديين,فيما تحركت المجموعة الأخرى ىين مقهى ياسين عند ابي نؤاس ومقاهي البرلمان وعارف اغا,فيما كانت جريدة (الأهالي) مركز الحراك الثقافي السياسي لهم.
حين غادر جواد سليم بغداد الى أوربا تشظت الاجتماعات لكن تأثير الفلسفة الوجودية بنهجها السارتري ظل مهيمنا لا نهج كير كجرد,لقرب الأول من مفهوم الالتزام,وذلك حديث طويل يجر أحاديث أخرى لايمكن استيعابها في مقالة تعطي اشارات دون تغطية متكاملة لادب فترة خصبة من الحياة الثقافية في العراق ...بالأمس .
غاب الطيران فوق مقهى الواق واق بغياب المقهى وتشظت تلك التجربة الحية التي شكلت حضورا واعيا في جزء من تجربة الأدب العراقي الحديث.