جواد علي كسّار
إذا أردنا أن نبتعد قليلاً عن الصورة الإعلامية للحظتنا الحاضرة، وما تعكسه من تباري الجميع وتسابقهم في تأييد التظاهرات، فسنلمس معاناةً أعمق لملايين من الناس، هي الأغلبية الصامتة من أبناء بلدنا، كانت تعاني ولا تزال قبل التظاهرات، ومع التظاهرات من دون أن يكترث أحد لمعاناتها، لمجرّد أنها صامتة لا صوت لها.
قبل حظر التجوال ومع غروب الأربعاء 2 تشرين الأول انقطع الانترنت، وقوّض فرصة التواصل الهادئ البريء بين العوائل والأقرباء من الملايين الصامتة داخل العراق وخارجه، وفي اليومين التاليين أُعلن عن حظر التجوال، وهنا بدأت المشكلات. فباعة النفط مثلاً كانت تتوسّل بالناس لتزويدهم بحصصهم من النفط ، والناس تهمل لأن الأجواء لا تزال حارّة، ولم يطرق الشتاء أبوابه بعد، لكن في ظلال أجواء مشحونة بالقلق والخوف وهواجس الماضي وتجاربه المريرة، اندفعت الناس لتخزين النفط وسط شحة مفتعلة بدأت في الأفق.
لم أجرّب ذلك شخصياً بل سمعتُ ذلك من عديدين، بأن سعر اسطوانة الغاز التي غابت عن الأنظار حتى في محطات التعبئة، وصل إلى عشرين وخمسة وعشرين ألف دينار، لولا أن تداركت ذلك سريعاً، وزارة النفط التي رأيتُ بنفسي إحدى شاحناتها الكبيرة، توزّع الاسطوانة بخمسة آلاف دينار في أحد أحياء الكاظمية. بشأن الخضار والفواكه فقد سجّلت ارتفاعاً تجاوز الضعف في أسعار بعضها، كالطماطم والباذنجان.
وقد كان أكثر ما أخشاه وسط حالة الخوف والخشية المشوبين بهلع، أن تبرز أزمة في المخابز، وهذا ما لم يحصل والحمد لله، إذ بقي أغلبها مفتوحاً ولم يتحجّج أهل المروءة من أصحابها، بنفاد الطحين أو الوقود، ولم يفتعلوا أزمة. لكن أذكر أنني دخلتُ متجراً محترماً بأخلاق صاحبه، لكي أشتري كعادتي قنينة واحدة من الحليب السائل، فدُهشتُ أنها كانت قد نفدت بأجمعها!
من دون علم مسبق بكلّ هذه المستجدّات كنتُ قد حجزتُ بطاقة للحجية زوجتي لكي تذهب إلى إيران، مستفيداً من رخص الأسعار قبل زيارة الأربعين. ومن مقادير السوء أنها كانت يوم الخميس، اليوم الأول من يَومَي حظر التجوال، والحقيقة لستُ أدري ماذا أفعل وكيف أتصرّف؟ المهم استفدتُ من استثناء قرأته على الشريط الإخباري للفضائيات، من أن المسافرين مستثنون من إجراءات الحظر، بمجرّد إبراز البطاقة. صوّرنا البطاقة بنسخ ورقية متعدّدة، وبدأت معاناة الرحلة إلى المطار، خاصة في ساحة عدن، عندما رأيتُ الشرطي يمرّر السيارات بهدوء ودون ضجيج الواحدة تلو الأخرى، لكن فجأة توقف بأمر من قائده الجالس في زاوية من زوايا الساحة. عندما تحدّثتُ إلى هذا القائد الشرطوي، رفض حتى النظر في البطاقة، وكانت حجته السخيفة: لماذا تذهب إلى المطار من ساحة عدن، وحي العدل، ولماذا لم تختر طريق الزوراء؟
هذه اشارات عابرة شديدة الاختزال لمعاناة الملايين الصامتة في بلد أشكّ أنه يفهم «الخزين الستراتيجي» للطحين والحبوب والطاقة والسلع الحياتية، وإذا فهم البعض ذلك فأشك بوجود قدرة تنفيذية ورقابية في توزيع هذا الخزين، فارحموا الملايين الصامتة رحمكم الله!.