باهرة عبد اللطيف: للشاعر العراقي رصيدٌ لا ينافسه فيه أحد

ثقافة 2019/10/23
...

حاورها من بغداد : حسن جوان 
باهرة محمد عبد اللطيف كاتبة وأكاديمية ومترجمة وشاعرة وناشطة في حقوق المرأة. عراقية تحمل الجنسية الإسبانية وتقيم في مدريد منذ عام 1995. حصلت على البكالوريوس في اللغة والأدب الأسباني من كلية الآداب بجامعة بغداد عام 1979 كما حصلت على دبلوم عال آخر في الترجمة الفورية ودبلوم عال في الترجمة التحريرية وبتقدير امتياز من جامعة أوتونوما بمدريد عام 1982. تحمل شهادة ماجستير في أدب أميركا اللاتينية من جامعة اوتونوما بمدريد ودبلوم في دراسات الهجرة والتفاعل الثقافي. عملت أستاذة للغة والأدب الإسباني في جامعات عدة من بينها جامعة بغداد وجامعتا أوتونوما وكومبلوتنسه بالعاصمة الإسبانية مدريد، وقد حازت ترجمتها لكتاب «الغابة الضائعة» وهي مذكرات الشاعر الإسباني رافائيل ألبرتي، على جائزة أفضل كتاب مترجم في العراق عام 1993. كما حازت دراستها المعنونة «رجم» والصادرة بمدريد، على إشادات الكثير من الكتاب الإسبان المتخصصين في قضايا المرأة. أصدرت «تأملات بوذية على رصيف الموت» «قبل الجنون» و «فلاشات معتمة» ، و «بغداد جرح في خارطة العالم»، و «حرب تتعرى أمام نافذتي» بالإضافة الى عشرات الترجمات. تواصلنا معها في مقر اقامتها فكان هذا الحوار الخاص بـ « الصباح» :
 
*انطلقت نحو كتابة الأدب بأجناسه المتنوعة كـ «هواية» على حدّ تعبيرك، لكن يبدو أنك برعت في كتابة الشعر والقصة والمسرحية مؤخراً، كيف تروين لنا قصة هذه الهواية على هامش تخصصك الترجمي والأكاديمي؟
-كنت ومازلت أقول إن الكتابة «هواية» بالنسبة إلي، أعني بهذا أن الكتابة ليست مهنة ترتهنني وتخضعني لاشتراطاتها بل أخضعها أنا لشرطي الانساني. إنها رغبتي في الانعتاق من أي قيد خارجي، وقيدي الوحيد هو «التزامي» بمضمون ما أكتب. اخترت التخصص في الترجمة الفورية والتحريرية كمهنة أزاولها وأدرّسها في الجامعة. إنها مهنتي ومصدر عيشي الذي يحميني من الخضوع لأي سلطة خارجة عن عالم الثقافة. في الكتابة أتجول بحرية بين التعبيرات الأدبية كافة إذ لا فرق لدي بين هذا الجنس الأدبي أو ذاك مادمت أسعى لتحرير صوتي الداخلي، المضفور دوماً بصوت الآخر. الشعر والقصة والمسرحية والنصوص المفتوحة التي تقف بين الشعر والحكاية وربما قريباً الرواية أيضاً هي كلها محاولات أسعى من خلالها لتحرير هذا الصوت الفردي والجماعي معاً، تحدوني رغبة عميقة – وأمنية صعبة- في أن يجد القارئ في ما أقدمه إليه نوعاً من سلوى تخفف وحشته في هذا الكون. 
 
*ترجمت «الغابة الضائعة» لمذكرات رافائيل البرتي كبداية مبكرة وموفقة، كيف اخترت البرتي، وكيف راهنت على نجاحه كترجمة رائدة آنذاك؟
-قرأتُ كتاب «الغابة الضائعة» بالأسبانية فأعجبني كثيراً بمضمونه ولغته الشعريّة الهائلة، وهو جزء من مذكرات البرتي الذي أكنّ له إعجاباً  كبيراً، شاعراً ومثقفاً تقدمياً عالي القامة الإنسانية في أزمنة الديكتاتورية الفرانكوية. كنت قد قرأت الجزء الأول من المذكرات المنشور في خمسينيات القرن الماضي وقد تناول فيه الشاعر مرحلة طفولته، إلا أني اخترت الجزء الثاني لترجمته لأنه الأنضج إذ يتناول فيه تفاصيل شبابه وانتمائه لليسار الأسباني ومشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية مع الجمهوريين ضدّ اليمين الفاشي المتمثل بالعسكر والكنيسة. ببساطة، أحببت أعمال البرتي وقصائده ومواقفه الإنسانية وأردت أن أنقلها للقارئ العربي، والعراقي تحديداً، في زمن كانت ممنوعة فيه وغائبة تماماً مثل هذه الإصدارات.
ضم كتاب مذكرات ألبرتي أسماء كثير من الكتاب والمثقفين الإسبان والأجانب -وحتى العرب- ممن كان يأتي على ذكرهم في النص الإسباني وما كان لهم آنذاك تراجم عربية أستعين بها، ولم تكن قد توفرت بعد تكنولوجيا الاتصالات الحديثة عبر الإنترنت وأدواتها اللامتناهية من معاجم وموسوعات. لذا كان علي أن أبحث عن إجابات من خلال التواصل بصعوبة مع أصدقائي المثقفين الاسبان، أيام الحصار الاقتصادي المفروض على الشعب العراقي. وحين انطلق قصف التحالف الدولي الجويّ على العراق في مطلع عام 1991اضطر الناس إلى مغادرة بغداد، فحمل الجميع أغلى ما لديه وحملت أنا حقيبة يدوية صغيرة تنوء بأكثر من (500 ) صفحة مخطوطة باليد هي ترجمتي لكتاب «الغابة الضائعة» وفي أعماقي قرار هادئ توصلت إليه بأن نموت معاً أو نحيا معاً! وقد عشت وعاشت معي المخطوطة ونشرتها لي (دار المأمون للترجمة والنشر) ضمن مجموعة إصداراتها الرصينة، ولاقت استحساناً كبيراً من لدن القرّاء والنقاد على حدّ سواء.
 
*تنتظم المرأة وقضاياها الكثير من أعمالك ونشاطاتك الأدبية والحقوقية، كما كتبت دراسة عن أوضاع المرأة العراقية والعربية، ما المقترحات التي خرجت بها عبر دراسة تلك الأوضاع، لاسيما ان وضع المرأة لدينا لم يشهد تقدّماً يذكر في السنوات الأخيرة ؟
-قضايا النساء تستأثر كثيراً باهتمامي لأن المرأة ضحية بامتياز للمجتمعات الأبوية وعقليتها الذكورية المصادرة لاستقلاليتها، ولا يمكن لأي مجتمع أن يتقدم وهو يضطهد نصف أبنائه. لقد شهدت أوضاع النساء في مجتمعاتنا العربية والعراقية تحديداً نكوصاً واضحاً وردة تراجعية لا يصدقها العقل البشري التواق إلى التقدم وإلى مزيد من الحقوق الإنسانية. وذلك بسبب صعود أحزاب الإسلام السياسي أو أحزاب المتأسلمين -بكل تفرعاتها المذهبية- إذ ألغت بعقليتها المحافظة وتأويلاتها الذكورية للنصوص القرآنية والتراث الإسلامي نضال أكثر من قرن لنسائنا الرائدات. 
كل المنجزات التي حصلت عليها النساء منذ عهد الجمهورية وقانون الأحوال المدنية (1958) المتقدم آنذاك وما حصلت عليه النساء لاحقاً من حقوق في العمل في السبعينيات تم الالتفاف عليه وإفراغه من محتواه ، بل وصل الحد ببعض ساسة «القرون الوسطى» أن يجرأ على اقتراح تشريع يبيح الزواج من طفلات بعمر التاسعة! الأمر الذي رأت فيه منظمات حقوق الانسان والمنظمات النسوية في العالم وكل الهيئات الدولية المهتمة بالطفولة تشريعاً يبيح «اغتصاب الصغيرات»وهو ما يسمى بـ(البيدوفيليا) أو التحرش الجنسي بالأطفال الذي يعاقب عليه القانون في العالم أجمع. 
وقد نشرت في كتب مشتركة مع كتاب وكاتبات إسبان أكثر من عشرين دراسة بهذا الصدد، وحاولت-ومازلت- إعادة قراءة بعض النصوص القرآنية التي خضعت للتأويل الذكوري المهيمن، وتوصلتُ الى نتائج أعتقد أنها تحرّض على التفكير. في مرحلتي الجامعية أعجبت كثيراً بكتابات ناشطات نسويات مثل الدكتورة نوال السعداوي ثم قرأت لاحقاً دراسات الأستاذة الكبيرة فاطمة المرنيسي وشدني أسلوبها كمنقّبة في التاريخ الإسلامي وحاولت ان أستلهم نهجها في عملي.
يحزنني كامرأة ولدت وتربت في العراق المنفتح ثقافياً واجتماعياً أن أجد مفارقة صارخة في جيل فتياتنا الآن، ملخّصُه أن الجدّات كنّ أكثر تحرراً واستقلالية في بلادي من الحفيدات الآن. إذ يجدن أنفسهن مقيدات بمحددات لا حصر لها، فرضتها عليهن منظومات دينية واجتماعية مكرسة سياسياً حدّت من حرياتهن وطاقاتهن وأشاعت بينهنّ الأمّية والزواج المبكر والبطالة وصولاً إلى تشييئها من جديد عبر إحياء المنظومة العشائرية ومن خلال صفقات تكون ضحيتها دوماً النساء. وهنا لابد من التنبّه إلى أمرين: لا تكفي المطالبة النسوية بالحقوق بل ينبغي المحافظة على المنجزات المتحققة، وأن تكون النساء واعيات لذلك ؛ لأن التجربة العراقية علمتنا أن هذه الحقوق يمكن لها أن تختطف لاحقاً أو تستبدل بقوانين تراجعية في أي لحظة نكوص للمجتمع. ولا بد أن يكون الضغط من خلال المجتمع المدني الفاعل ريثما تصل إلى البرلمان من تمثل النساء وحقوقهن فعلاً. 
 
*ما الدور المؤثر الذي تعتقدين أنك أسهمت فيه في التبادل الأدبي والإنساني بين الثقافتين العربية والاسبانية؟
- مذ وصلت أسبانيا وأنا مسكونة بهاجس أن أكون همزة وصل بين الثقافتين، العربية والأسبانية. وحاولت عبر كل أنشطتي أن أنقل الكثير من المعارف ما بين الثقافتين لتقليص فجوة الجهل بالآخر التي هي علة جميع الأطراف، وعزز من نشاطي عملي أستاذة في الجامعات الأسبانية وتواصلي مع النخب الأكاديمية والثقافية الأسبانية. كنت أتمنى ان أنشئ منابر ثقافية مشتركة كثيرة لكن الإمكانيات الفردية لا تكفي وما من مؤسسات ثقافية عراقية حقيقية في الخارج، على الأقل في أسبانيا. 
 
*من خلال اطلاعك العميق على القصيدة الإسبانية، هل يمكن المقارنة بين ما يُكتب من قصائد نثر عراقية وأخرى إسبانية من حيث المواكبة والوعي والبناء؟ 
- انا أكتب الشعر باللغتين العربية والأسبانية وترجمت كتابين شعريين، أحدهما «أبداً لن يجدوا شفتيّ» للشاعر انطونيو سيّونيس من (البيرو) وكتاب «جسدٌ صوب الداخل» للشاعرة الأسبانية آنّا سيلبا. وترجمت الكثير من القصائد المتفرقة لشعراء من أميركا اللاتينية وأسبانيا وأكاد أقول إن قصيدة النثر الإسبانية، كما هو الحال في كل العالم، تشهد فورة لا سابق لها بسبب انتشار (الفيسبوك) وسواه من منصات التواصل الاجتماعي. قصيدة النثر تعولمت أيضاً وهبطت من نخبويتها إلى الجمهور العام. وربما تكون التقنيات الحديثة قد خدمت الشعر أكثر من الرواية وبقية الأجناس الأخرى بحكم سهولة تداوله وصغر مساحته مقارنة بالرواية مثلاً. يبقى أمران لا بد من الإشارة إليهما، أولهما أني  وجدت في أسبانيا انفتاحاً أكبر على الفنون الموسيقية والغنائية والتشكيلية والمسرحية في القراءات الشعرية، أعني المزاوجة بين هذه التعبيرات الأدبية وتوظيفها لصالح الشعر، وهذا ما لا نجده كثيراً لدى شبابنا الشعراء. الثاني هو أن لدى شعرائنا الشباب ما لا يمتلكه الأسبان أو الأوروبيون وأعني به الثيمات الشعرية اللامتناهية النابعة من خزين المعاناة الإنسانية والعذاب الذي يفجر الشعر. للشاعر العربي، والعراقي خاصة، رصيد لا ينافسه فيه أحد، وله أن يستثمره أكثر من أي شاعر في العالم، لأن الظلم السياسي والاجتماعي الذي يعانيه يفجّر الكثير من الحمم الداخلية شعراً.
 
*كتبت نصّاً مسرحياً يتناول هوية الإنسان في المنفى، كيف تعالجين هذا السؤال في الهويّة في ضوء تجربتك، ولم اخترت عشرين صوتاً نسائياً في هذا العمل؟
-كتبت نصّاً مسرحياً بعنوان «كرسيّ عند الحدود» وهو امتداد لقصصي ونصوصي الشعرية حول المنفى والاغتراب. أنا لم أختر العشرين صوتاً وإنما اختارتها ناشرة الكتاب البروفيسورة (كونتشا سوتو) من جامعة (ألميريّا) الأسبانية، في كتاب ضم (20) صوتاً نسائياً من العالم وطلبت مني أن أكتب نصّي بالعربية والأسبانية ففعلت. ثم راق نصي المسرحي «كرسي عند الحدود» للناشرة وطلبت مني الإذن بأن يحمل الكتاب عنوان مسرحيتي -بتغيير طفيف- فكان «كراسٍ عند الحدود». العنوان يحمل ضمناً الكثير من الدلالات التي تخص حالة الوقوف بين البلاد وبين المنفى، وهذه حقيقة بالنسبة الي، فهاجس الهوية يرافقني منذ ربع قرن، لا لبس فيها أو زيغ اعتراها، بل لتوكيدها في كل مرة عبر المزيد من الإنجاز الذي يجعلني جديرة بهويتي العراقية. 
 
*الى أي مدى لا يزال العراق يمثل هاجساً لديك وهوية، وكيف تسكنين في عاصمتين في وقت واحد، عاصمة الوطن البعيد «العراق» وعاصمة الوطن القريب «إسبانيا» ؟
-سؤال الهوية والوطن هو سؤال كبير جداً وقد تأمّلته طويلاً. صدقاً لا أستطيع أن أتخيّل نفسي بدون العراق وبدون بغداد، حتى لكأنّ وجودي مرادف لهذين الاسمين. في الفترة ما بين الأعوام 2003 حتى كانون الأول 2011، تاريخ انسحاب القوات الأميركية المحتلة (صورياً) كنت أتحرك مثل الملدوغة ألقي المحاضرات وأشارك في ندوات وأتحدث في كل المنابر الإعلامية الأسبانية، لم أتقبل أبداً فكرة اختفاء بلدي في تلك السنوات من خريطة العالم فجأة! كتبت في تلك المرحلة نصوصاً شعرية بعنوان «بغداد جرح في خارطة العالم» كانت تعبيراً عن هذا الهاجس. وقبل أشهر قليلة أصدرت ديواني الشعري «حرب تتعرى أمام نافذتي»، وهو أهجيتي للحرب.
المنفى يمنحنا فرصة اختيار هويتنا الوطنية، أو التخلص منها أيضاً لمن شاء ذلك، الأمر مرهون بمدى وعي المرء ومنظومة قيمه التي تحميه من الاستلاب إزاء الآخر. والفرصة تغدو هائلة  لتوكيد الهوية لأن المنفى يجعلنا نتحسس جذورنا ونعيد الانتماء إليها طوعاً هذه المرة، فيصبح الانتماء خياراً واعياً وليس محض مصادفة قدرية أو تركة عائلية ننوء بها ونحلم بسواها. 
 
*كيف تنظرين هذه الأيام الى الحراك الشعبي في العراق، لاسيما إنّ موقف المثقف العراقي يتسم بالغموض والصمت غالباً؟
-ما يحدث في بلادنا اليوم هو فرصة تاريخية نادرة لإحداث التغيير الحقيقي على أيدي أبناء العراق هذه المرة (لا من خلال دبابات المحتلين) لإعادة المنطق الإنساني والوطني إلى واقعنا الذي فاق الخيال بسرياليته، لتغيير مخرجات الاحتلال الأميركي الذي أفرز نظاما طائفياً تحاصصياً تخادمياً بولاءاته الخارجية، لصالح فئة صغيرة تتسلح بالجهل والقوة الغاشمة. تغيير هذا الواقع الرثّ كان يحتاج إلى هزة كبرى، وقد أحدثها خروج المتظاهرين العزل المنتمين إلى جيل هو نتاج أعوام الظلم هذه. من هنا تأتي ضرورة وقوف المثقفين العراقيين، في الداخل والخارج، مع انتفاضة شبابنا الأحرار. لا عذر لأحد في الصمت بعد اليوم ولا عودة عن المطالب المشروعة التي طال انتظار الشعب لها. لا بد من دعم انتفاضتهم بمشاركة النساء الفاعلة وأن يكون للمثقفين والأدباء والفنانين الصوت الأعلى المسموع لإنقاذ بلد عمره أكثر من عشرة آلاف عام يحتضر بصمت منذ سنوات طويلة.